في خطابه عن الاتحاد في 25 كانون الثاني، قال الرئيس الأميركي باراك أوباما إن هناك تحدياً يواجه أميركا يوازي التحدّي الذي واجهته في خمسينيات القرن الماضي، أي عندما أطلق الاتحاد السوفياتي «سبوتنيك ـــــ 1»، أول قمر اصطناعي في التاريخ. قال أوباما «إن جيلنا يواجه تحدّي لحظة سبوتنيك»، لكن التحدي، هذه المرّة اقتصادي، ويأتي من عملاق شيوعي آخر هو الصين، وهو أكثر مصيرية بالنسبة إلى الولايات المتحدة من التحدي التكنولوجي والعسكري الذي واجهته مع الاتحاد السوفياتي سابقاً.ويعتقد أوباما بأنه قادر على استجماع قوة الولايات المتحدة لاستعادة زمام المبادرة الاقتصادية من العملاق الصيني الصاعد. طبعاً سيكون ذلك عنواناً جاذباً لإدارة أوباما التي فقدت الكثير من شعبيتها وزخمها منذ أن رفعت في حملتها الانتخابية شعار «نعم نستطيع»، وهو الشعار الذي جمع أطياف الديموقراطيين والليبراليين والشباب والأقليات والحالمين بالتغيير في أميركا، بعد ثلاثة عقود مرهقة من السياسات اليمينية التي قادت الأميركيين إلى حروب عبثية، وأفقرتهم وزادت من الفوارق في الدخل والثروة في مجتمعهم، وأخيراً أدخلتهم في أتون أسوأ أزمة اقتصادية منذ الكساد الكبير.
لكن الظروف تغيّرت منذ تشرين الأول 1957، عندما نظر الأميركيون إلى السماء ليروا شيئاً لم يره أحد من قبل، جسماً صنعه الإنسان ووضعه في مدار حول الأرض، بريقه كان كبريق النجوم. في تلك اللحظة أدرك الأميركيون أن الاتحاد السوفياتي، الذي هزم أكبر وأقوى جيش في التاريخ، استطاع أن يخرج من رماد الحرب العالمية الثانية ليتفوّق تكنولوجياً على الغرب. وبالفعل أطلقت لحظة سبوتنيك تغييراً كبيراً في سياسات الولايات المتحدة في مجالات العلوم الأساسية والتمويل الحكومي للجامعات والأبحاث الأساسية وفي إطلاق البرنامج الفضائي، الذي وضع نصب عينيه تحقيق نصر رمزي على السوفيات، وهو إيصال إنسان إلى القمر، الذي حققته الولايات المتحدة في عام 1969.
لكن الأثر الأكبر للحظة سبوتنيك الأصلية لم يكن السباق نحو القمر، بل التفوّق العلمي والتكنولوجي لأميركا الذي مثّل الداعم الأساسي للاقتصاد الأميركي المبنيّ على السياسات الكينزيّة ـــــ الفورديّة، أي السياسات التي أنتجت مجتمع الإنتاج ـــــ الاستهلاك الكبير، وفتحت الباب أمام العهد الذهبي للرأسمالية الأميركية، إذ أتاحت التوأمة بين اقتصاد ديناميكي منتج وصناعي وبين التقدم الاقتصادي ـــــ والعلمي للولايات المتحدة ـــــ الجلوس على رأس الهرم الاقتصادي والتكنولوجي لدول العالم.
الظروف تغيّرت اليوم، والتحدي أصبح مختلفاً. فهذه اللحظة ـــــ التحدي هي لحظة «سبوتنيك اقتصادية» وليست «علمية ـــــ تكنولوجية»، فالصين تنمو بمعدل 10% سنوياً، وتحقق فائضاً تجارياً كبيراً مع الولايات المتحدة، وأصبحت المحرك الصناعي الأول في العالم، وهي المموّل الأساسي لدَين الولايات المتحدة، وهي أخيراً تدخلت في أوروبا لإنقاذ اليورو والاقتصاديات الأوروبية من الانهيار. أما الولايات المتحدة فهي لا تعاني فقط آثار الأزمة الاقتصادية ـــــ المالية الكبرى، بل تعاني أيضاً أزمة بنيوية، بدأت مع «الإصلاحات» الليبرالية في أوائل الثمانينيات، وأدّت إلى تفكيك القاعدة المادية للاقتصاد الأميركي، فتحوّل إلى الخدمات، وتراجعت حصّة الصناعة الأميركية من الصناعة في العالم إلى ما كانت عليه في نهاية القرن التاسع عشر! لقد أطلقت هذه «الإصلاحات» العنان للأسواق المالية لتتحكم بالاقتصاد الحقيقي، وأصبحت الرأسمالية الأميركية «رأسمالية ـــــ مالية» تتحكم بها معدّلات الربح الاصطناعية الناتجة من الابتكارات المالية، فعندما انهارت هذه القلاع الكرتونية أخذت معها الاقتصاد الأميركي عموماً.
أدّت هذه «الإصلاحات» إلى انهيار العقد الاجتماعي، فازداد سوء توزيع الدخل، واتّسعت الهوّة بين طبقات المجتمع، إذ وصلت ثروة أغنى 1% من الأميركيين إلى 225 مرة لمعدل الثروة في عام 2009، بينما كانت تبلغ 125 مرة في عام 1962. وبين عامي 2002 و2007، ذهب إلى جيوب هؤلاء نحو 65% من نمو الدخل. وأدّت «الاصلاحات» أيضاً إلى تراجع الادّخار الوطني في الولايات المتحدة وتحوّل المجتمع إلى مجتمع استهلاكي، لكن هذه المرة من دون القاعدة الفوردية ـــــ الكينزية، فازداد الدين الخاص للأميركيين الذاهب إلى تمويل استهلاكهم، وازداد الدين الخارجي للولايات المتحدة لتمويل هذا النموذج الاقتصادي الجديد.
وفي خضمّ التحوّلات، كانت الحضارة والمجتمع الأميركيان يُستنزفان، فتراجعت مكانة الولايات المتحدة على مستوى التعليم عالمياً، وكذلك في الصحة ومعدلات الفقر وفي مجال العلوم نفسها، وتراجعت البنى التحتية، وأصبح 20% من القوى العاملة أميين، وارتفعت معدّلات الجريمة لتكلّف أميركا في عام 1999 نحو 1.3 تريليون دولار سنوياً، وأدّى نظام الملكية الخاصة، وتوسيعه إلى مجال الملكية الفكرية في علوم وتكنولوجيا المعلومات، إلى ضرب الفكر العلمي الحر، فظهرت ملامح أزمة علمية في أميركا، بحسب العالِم الفيزيائي، الحائز جائزة نوبل، روبرت لافلين، في كتابه الأخير «جريمة العقل».
كل هذه التغيّرات في الاقتصاد والاجتماع الأميركيين تجعل الولايات المتحدة عاجزة عن ملاقاة تحدّي أوباما الآن، فعندما أطلقت الصين أسرع قطار في العالم في 2 كانون الأول 2010 كانت الأخبار الآتية من الولايات المتحدة عن إقامة سباق رياضي ترفيهي بين روبوتات تتضارب وتتسابق ويصفق الجمهور لها. ففي الصين تجنّد التكنولوجيا للعمل والإنتاج، أما أميركا فتجنّدها للاستهلاك والتسلية. ولو نظر اليوم الأميركيون إلى السماء، لرأوا بعض مواطنيهم الأثرياء يتسلون في رحلات خاصة في الفضاء بينما تحدي أميركا يكمن في الجهة الأخرى من الأرض نفسها.
* رئيس قسم الاقتصاد
في الجامعة اللبنانية الاميركية - بيبلوس