بينما تبقى الحرب السرّية مفتوحة بين المقاومة والعدو، فإن الصورة الأكثر اقتراباً من عمل المقاومين يمكن استشرافها ولو جزئياً من النتائج التي برزت على أكثر من جبهة. لكن من المفيد قسمة الملف إلى جزءين: واحد يتعلق بالاستخبارات العسكرية التي برزت بعض نتائجها في المواجهات التي حصلت في عام 2006، والآخر يتعلق بالاستخبارات الوقائية أو التعطيلية التي برزت نتائجها خلال العامين الماضيين، وتمثلت في كشف أكبر عدد من خلايا التجسس للعدو في تاريخ الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي.وفي جردة لأبرز ما حصل خلال هذه الفترة، يمكن الإشارة إلى أنه في الآونة الأخيرة انتقل العمل بقوة إلى مكافحة التجسس التقني، وقد حصدت المقاومة سلسلة إنجازات بعضها ظل طيّ الكتمان وبعضها الآخر أعلن مثل كشف أجهزة التنصت على شبكة اتصالات الحزب في وادي السلوقي أو الكشف عن أجهزة الرصد المتطورة في جبلي صنين والباروك، وهي أجهزة اكتشفت أخيراً بخلاف ادّعاءات العدو، ولو أنها ربما كانت موضوعة في الخدمة منذ مدة غير قصيرة، وهو أمر يثير نقاشاً وأسئلة لا يملك أحد الإجابة عنها كاملة، ومن بينها سؤال: ماذا لو كانت المقاومة تعرف بوجود هذه الأجهزة منذ زمن بعيد، وهي قررت توقيت إعلان كشفها.. فماذا سيكون مصير المعلومات التي جمعها العدو خلال تلك الفترة غير التلف.. كما هي حال كمية كبيرة من المعلومات والأهداف التي تبيّن أن العملاء الموقوفين أو الفارّين قد عملوا على جمعها؟ بمعنى آخر أوضح: هل هناك من يملك جواباً حاسماً عمّا إذا كانت إسرائيل قد تعرّضت لخدعة استخبارية؟
تجربة حرب تموز ليست بعيدة عن هذه التساؤلات، إذ إلى جانب المفاجآت العسكرية التي رآها الناس، هناك مفاجآت ذات طابع استخباري لم تقرر المقاومة بعد الكشف عنها، وتظل تفاصيلها رهن اليوم الذي تقرّر فيه المقاومة فتح خزائن أسرارها الحربيّة.
وفي هذا السياق، يمكن الاستدلال على أن قوة المقاومة على صعيد العمل الاستخباري تعود الى زمن سابق. وقد جاء كشف الحزب عن سر عملية أنصارية التي جرت في عام 1997، ليميط اللثام عن أن الحزب كان يملك في ذلك التاريخ قدرة تقنية على اعتراض بث طائرات الاستطلاع الإسرائيلية التي تسير من دون طيار. وبالتالي، فإن ما كُشف عنه لاحقاً، أي بعد حرب تموز 2006، دلّ على أن البنية الاستخبارية للحزب، بشرياً وتقنياً، تعمل بوتيرة تصاعدية، ولا سيما بعد كشف العدو عمّا رآه الجنود في مارون الراس وميس الجبل، حيث عثر على غرف في منازل عادية، تحوي برامج رصد وتنصت تضع حركة جيش الاحتلال على طول الحدود تحت نظر المقاومين وفهمهم، كما تضع هواتفه الخلوية وأجهزة بثه اللاسلكية على مسمع آذان المقاومين، قبل أن تكون المفاجأة في الكتيّب الدليل الذي عثر جنود العدو على نسخة منه في إحدى نقاط المقاومة المتقدمة، والذي يحوي على 156 صفحة تضمّنت وصفاً دقيقاً لمنظومة عمل الجيش الإسرائيلي في كل القطاعات، علماً بأن حزب الله عاد، بعد افتتاح معلم مليتا السياحي الجهادي في إقليم التفاح، إلى تضمينه خريطة تشرح هيكلية جيش العدو كاملة، بطريقة تدل على أن هذه المعلومات كانت متوافرة قبل وقت طويل من حرب تموز 2006.
لكن العدو كان قد تعامل بطريقة مختلفة مع قدرات حزب الله الأمنية بعد حرب تموز، وهو قرر رصد موازنات ضخمة وإعادة تأهيل قطاعات كثيرة ناشطة في هذا المجال، وأعاد نبش ملفّات المئات من المتعاملين معه في فترات سابقة على انسحاب عام 2000. وبدا فريق إدارة المصادر البشرية في استخبارات العدوّ مستعجلاً إعادة تركيب شبكات تعمل في كل القطاعات، وبأسرع وقت ممكن. لكن حقيقة المواجهة الأخيرة دلّت على نتائج معاكسة:
ـــــ لقد أدّت عملية مكافحة التجسس في لبنان خلال أقلّ من عامين الى توقيف نحو 170 مشتبهاً في تعامله مع العدو، وغالبية هؤلاء اعترفوا بما نسب إليهم.
ـــــ لقد نجح عدد غير محدّد بدقّة من المتورّطين في الفرار من لبنان، إما بناءً على مبادرة فردية خشية الوقوع، أو بناءً على تعليمات المشغّلين الإسرائيليين. كذلك توقف عملاء آخرون عن العمل، ما أدى عملياً إلى تعطيل عشرات الشبكات الأخرى، الأمر الذي يعني أنّ زلزالاً أمنيّاً أصاب المؤسسة الأمنية في إسرائيل ووضعها في موضع الضعيف غير المحترف.
ـــــ لقد اضطر العدو إلى العودة الى الوراء وإلى مراجعة ما يفترضه من بنك أهداف لديه، وهو مضطر أيضاً إلى استبدال آليات التجنيد والتواصل مع العملاء، كما أنه سيجد صعوبة حقيقية لا شكلية في العثور على من يتعاون معه، برغم كل المناخ السياسي الداخلي في لبنان.
ـــــ اكتشف العدو، أو قال إنه فكّك خلايا لمواطنين عرب يحملون الجنسية الاسرائيلية وأوقف بعضهم بتهمة التعاون مع حزب الله وتقديم خدمات أمنية له. وقال العدو إن حزب الله «بدأ بتركيز نطاق اهتمامه الاستخباري في مناطق أكثر بعداً عن الحدود، وصولاً إلى وسط إسرائيل، متجاوزاً في ذلك الجيش الإسرائيلي نفسه، من بينها جمع معلومات ذات طابع جغرافي دقيق، تتعلق بأهداف إسرائيلية مركزية وأساسية، سعياً إلى استطلاع مسبق لمناطق عمله المستقبلية».
ـــــ إعلان العدو أن حزب الله نجح في استخدام شبكة الإنترنت لتحقيق اختراقات أمنية بالغة الخطورة، وأنه اكتشف حالات يعمد فيها رجال أمن حزب الله الى انتحال شخصيات فتيات أو مجنّدات إسرائيليات، ويتواصلون مع جنود على صفحة التواصل الاجتماعي «الفايسبوك» بالإضافة إلى وسائل تواصل أخرى.
من المؤكد أنه يصعب على أحد ادعاء القدرة على عرض آليات العمل الاستخباري للمقاومة الإسلامية في لبنان، وسيكون من الأصعب تقديم صورة واضحة وعملانية تشير إلى مستوى التطور الذي حصل خلال العقد الأخير. لكن من المفيد استعارة عبارات كتبها أمير كوليك الباحث في مركز دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، وفيها يقول: «إن العمل الاستخباري لحزب الله ليس أمراً عارضاً، بل متوالٍ وممأسس، ويشبه أسلوب عمل أجهزة الاستخبارات النظامية، ويبتعد عن كونه جهاز استخبارات تابعاً لمنظمة إرهابية أو جهازاً غير نظامي آخر، إذ إن تطوّر خبرة مشغّلي المصادر البشرية وكيفية تجنيدها، يدلّ على أن مسارات مأسسة الذراع الاستخبارية لحزب الله، لم تتخلف عن مسارات مأسسة الذراع العسكرية، وهذا كله يشير إلى تحوّل حزب الله من الناحية الاستخبارية والعملانية، إلى جهة أكثر تركيزاً وخطورة ونجاعة».