خلال ثلاثة أيام، حاول «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» معالجة ظاهرة «ويكيليكس»، والإحاطة بانعكاساتها على الحياة الإعلامية والدبلوماسية، والسياسية في العالم. هكذا انطلقت ندوة «المصدر المفتوح في عالم الإنترنت والأوراق الدبلوماسية الأميركية المسربة كمعطى» (اختتمت أمس في فندق الـ«بريستول» في بيروت) من سلسلة أسئلة منطقية، رافقت ظهور التسريبات: ما هو تأثير الوثائق الأميركية على الإعلام التقليدي؟ كيف ينظر التاريخ إلى كل ما نُشر وسُرِّب؟ ما هي علاقة موقع جوليان أسانج بأجهزة الاستخبارات العالمية؟
وهل دشّن «ويكيليكس» عهداً جديداً من العلاقة بين الدبلوماسيين الأميركيين والأنظمة الحاكمة في العالم؟ ثمّ، هل يمكن مقاضاة الولايات المتحدة على الجرائم والانتهاكات التي كشفت عنها التسريبات؟
رغم إجماع أغلب الحاضرين على الأثر الإيجابي الذي حققته الوثائق المسرّبة عن العالم العربي، تحدّث الصحافي الأميركي غاريث بورتر عن صعوبة مساهمة ما نُشر في إحداث تغيير حقيقي، بسبب ارتباطها بأحداث سياسية وأمنية مضى عليها وقت. هذا إلى جانب أداء وسائل الإعلام دوراً في التخفيف من تأثيرها على الرأي العام. واستشهد صاحب كتاب «مخاطر الهيمنة: عدم توازن القوى والطريق نحو الحرب في فييتنام» (2005) بالوثائق التي نشرتها «نيويورك تايمز»، خصوصاً تلك المتعلقة بالحرب على العراق، وبالعلاقة مع إيران. إذ أكّد بورتر أنّ الصحيفة الأميركية حوّرت بعض الوثائق وأخرجتها عن إطارها الحقيقي، مراعاةً للمصالح الأميركية.
إذاً، لوسائل الإعلام الكبرى، التي نشرت الوثائق، دور مهمّ في تحديد كيفية وصول المعلومة إلى القارئ. وهو ما أكّدته الأستاذة في علم النفس (من الجامعة اللبنانية) منى فياض، خلال مداخلتها في ثاني أيام الندوة (السبت الماضي)، وأعلنت أنّ موقع «ويكيليكس» لم يكن شفافاً، كما قد يظن البعض، «بل سرّب وثائقه لخمس صحف شهيرة في العالم، لتصفّيها». وركّزت فياض على المقارنة بين كشف الوثائق، وبين توظيفها. هنا، أكّدت أنّ الكشف عن السرّ لا يمكن عدّه أمراً سيئاً، لكن توظيفه السلبي يمكن أن تكون له انعكاسات سلبية. وبحسب فياض، فإنّ الوثائق التي نشرت عن لبنان، تدخل في هذا الإطار، إذ استُعملت «للتشهير والتهديد والابتزاز، وزيادة هشاشة الوضع السياسي».
ومن الإعلام إلى التاريخ، حاول مسعود ضاهر الإضاءة على التغيير الذي أحدثه نشر الوثائق على مناهج كتابة التاريخ. كذلك تحدّث أستاذ التاريخ في الجامعة اللبنانية، عن فتح «ويكيليكس» الباب أمام البحث التاريخي في العالم العربي، بعد الإفراج عن وثائق، كان يفترض أن تظلّ سرية، ولا يفرج عنها إلا بعد عقود طويلة. أما الباحث العراقي مؤيد الونداوي، فتحدّث عن أهمية هذه التسريبات بعيداً عن عددها ومضمونها بالقول إنّ «ما يميز التسريبات هو أنّها تنقل الوقائع والأحداث التي جرت في لحظة معيّنة، وفي مكان معيّن، في إطار عدد مهمّ من دوائر الحكومة الأميركية والعديد من مؤسساتها السياسية والعسكرية وغيرها». إنها إذاً اللحظة التاريخية التي كان من المفترض أن تبقى طيّ الكتمان وحبيسة أدراج الخارجية الأميركية. لكن في خطوة غير متوقعة، جاء جوليان أسانج وجعل التاريخ ملكاً للرأي العام.
وإذا كان الجميع متّفقاً على الأثر الكبير الذي خلّفته الوثائق على العمل الإعلامي وعلى كتابة التاريخ، فلا شكّ في أنّ الارتداد الأكبر كان على الحياة الدبلوماسية الأميركية. وقد لفت الدبلوماسي الأردني السابق، حسن أبو نعمة، خلال كلمته، إلى أنّ الوثائق المنشورة لا تلزم أصحابها، أي الأشخاص الذين نُقل عنهم كل ما سُرِّب، «لأنّه في غياب المحاضر الرسمية التي وقّع عليها الطرفان بالأحرف الأولى، والتي تلخّص ما تضمّنته المحادثات، باستطاعة أيّ طرف أن ينفي ما نقل عن لسانه». لكن أبو نعمة لا ينفي الحرج الكبير الذي قد تسبّبه أي وثيقة لصاحبها.
أما في اليوم الأخير للندوة، فانتقل الحديث إلى التأثير المباشر للوثائق على العالم العربي، وانعكاسه على نظرة الشعوب العربية إلى حكامها والسفارات الأميركية في بلادها. وقد يكون أبرز ما جاء في اليوم الأخير، هو ما تحدّثت عنه شمامة خير الدين عن عداء الولايات المتحدة الأميركية للمحكمة الجنائية الدولية، «وقد جاءت وثائق «ويكيليكس» لتوضح أحد أسباب هذا العداء، وهو الممارسات الأميركية في العراق وأفغانستان». وهنا أيضاً استعادت الأستاذة المحاضرة في «جامعة باتنة» في الجزائر، الأثر الذي خلّفته التسريبات على الولايات المتحدة، فقالت إنّها «سبّبت لها انزعاجاً لا حرجاً، لأنّ كلّ ما قيل يناقض روايتها لاجتياح العراق، أي اتضح أنّها لم تغزُ بغداد لتحريرها من دكتاتورية صدام حسين، وأنّ ممارستها أبشع من ممارسات الرئيس العراقي السابق». إذاً، طوال ثلاثة أيام، حاولت الندوة الإحاطة بتأثير «ويكيليكس» على أكثر من صعيد، لكن قد يكون ضيق الوقت قد منع الحاضرين من مناقشة الموضوع الأمني المرتبط بالوثائق المسرّبة، وانعكاسها على حياة المواطنين، «خصوصاً ما يتعلّق بالأمن الإلكتروني، فمن يضمن لي أن لا أحد سيدخل على أي موقع حكومي في بلادي، ويسحب كل البيانات الشخصية المتعلقة بي؟»، يسأل الباحث الأردني علي حسين باكير في حديثه مع «الأخبار». سؤال قد يكون جوابه في الكتاب الذي سيصدره «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات»، قريباً، وسيتضمّن كلّ الأوراق التي قدّمت خلال هذه الندوة، وخلاصة أبرز النقاشات التي حصلت.