غسان ديبة *في خضمّ التحوّلات الجارية في الاقتصاد العالمي، التي فرضتها الأزمة الاقتصادية الأكثر عنفاً منذ الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن العشرين، وأجبرت الحكومات في الأنظمة الرأسمالية المتقدمة في الولايات المتحدة وأوروبا على التدخل في الاقتصاد تدخلاً كبيراً (أكثر من 20 تريليون دولار أنفقت!)... عادت العلاقة بين أهداف السياسات الاقتصادية والأهداف المعلنة لحقوق الإنسان للبروز من جديد في الأجندة العالمية للتنمية، وتزداد أهمية التركيز على هذه العلاقة حالياً بعد ظهور ملامح لبداية تراجع الحكومات عن مواصلة سياساتها التدخليّة، فحزب العمال في بريطانيا مثلاً تراجع عن بعض النقاط ذات الطبيعة الاجتماعية في برنامجه الانتخابي، وبدأت الحكومة اليونانية بإجراءات التقشف بعدما ضغطت عليها الأسواق المالية الحاملة ديونها، فضلاً عن أن بعض الاقتصاديين والمفكرين النيوليبراليين بدأوا حملة ضد فكرة الحاجة إلى اتّباع سياسات تعيد تنظيم الاقتصاديات والاقتصاد العالمي على أسس جديدة.
إن العلاقة بين السياسات الماكرواقتصادية وحقوق الإنسان يجب أن تبنى على التماهي بين هدفين: تحقيق العمالة الكاملة وإعادة توزيع الدخل من أجل زيادة معدلات الطلب العام، وبين حقين أساسيين: الحق في العمل والحق في مستوى معيشي ملائم. وهنا يجب على منظمات حقوق الإنسان تبنّي السياسات الاقتصادية الكينزية والتقدمية، أو ما يُسمّى «العودة إلى كينز».
ومن المهم في هذا الإطار أن يُدعم الاقتراح الذي تقدم به الاقتصادي جوزيف ستيغلتز من أجل قيام «مجلس عالمي لتنسيق السياسات الاقتصادية»، لأن إنجاح السياسات التوسعية والتوزيعية يحتاج إلى تنسيق بين الدول كي تكون هذه السياسات فاعلة ولا تؤدي إلى عجوزات في موازين المدفوعات وهروب رؤوس الأموال. فالكينزية وإعادة التوزيع لا يمكن أن تنجحا في بلد واحد كما برهنت تجربة فرنسا أيام ميتران.
وأيضاً من المهم الحفاظ على تصاعدية الضرائب وأنظمة الحماية الاجتماعية والتقاعد والبطالة، لما لها من دور كبير في استقرار الاقتصاديات الكلية. ويجب أن تعارض منظمات حقوق الإنسان أيضاً التوجه نحو إصلاح أنظمة الضمان الاجتماعي على طريقة البنك الدولي والتي تؤدي إلى آثار سلبية على استقرار الاقتصاد الكلي وعلى الحق في مستوى معيشي ملائم.
ومن المهم دعم تحوّل المصارف المركزية عن اتباع سياسات «استهداف التضخم» التي مارستها في العقدين الماضيين وأدت إلى زيادة البطالة وعطّلت قدرتها على استشراف الأزمة الاقتصادية من حيث تركيزها على استقرار الأسعار. إن إيلاء المصارف المركزية أهمية لتحقيق العمالة الكاملة واستقرار الأسواق المالية وأسعار الأصول المتداولة فيها سيؤدي إلى اقتصاديات أكثر استقراراً وبالتالي إلى مناخات ماكرواقتصادية أكثر ملاءمة مع أهداف حقوق الإنسان. وفي هذا السياق، يجب العمل على إدخال إصلاحات أساسية في أنظمة الرقابة وتنظيم الأسواق على المستويات الوطنية والعالمية، فهل عمل الأسواق يجب أن يؤدّي إلى تحويل الرأسمال المالي إلى رأسمال حقيقي جديد؟ أم أن عملها يشبه «كازينو» للمضاربة في الأوراق المالية للرأسمال القديم؟
لقد تلقّى دور الأسواق المالية المفترض في تحفيز مدراء الشركات العامة على تحقيق الصالح العام ضربة كبيرة في هذه الأزمة، إذ برز عامل تحقيق الربح السريع والقصير الأمد والذاتي كأساس لعمل الشركات، ما أدى إلى انهيارات في عدد كبير منها، فديناميكية الأسواق الناتجة من المضاربة لم تعد تعكس القيم الأساسية للأصول المتداولة، وبالتالي فقدت الأسواق المالية هذه الناحية المهمة التي تعتبر أساسية لتحقيق الكفاءة الاقتصادية المفترضة. وفي هذا الإطار، على منظمات حقوق الإنسان أن تدعم الاقتراحات المتداولة حالياً من أجل تنظيم أكبر وأوسع وأعمق لهذه الأسواق، بالإضافة إلى اقتراحات السياسات المحددة مثل وضع ضرائب على الاستدانة القصيرة الأمد من جانب المصارف، التي لعبت دوراً في هذه الأزمة، كذلك وضع حدود دنيا وعليا على حركة أسعار الأسهم والأوراق المالية من أجل استشعار حركات المضاربة ووقف الديناميكيات المؤذية للأسعار في الأسواق المالية.
أما على صعيد الإصلاحات الأكثر جذرية، فيجب دعم اقتراحات جيفري ساكس من أجل إصلاح السياسة الماكرواقتصادية وتحويلها من سياسات تهدف إلى استقرار الأسعار والناتج المحلي ومحاربة البطالة وتحقيق النمو إلى سياسات أكثر بنيوية تهدف إلى تكوين القاعدة المادية للاستثمار في الطاقة ومحاربة التغيّرات المناخية والاستثمار في البنى التحتية ومحاربة الفقر والتعليم والأمان الغذائي... وهذه المجالات تمثّل أهم التحديات الاقتصادية ـــــ الاجتماعية التي ستواجه البشرية في العقود المقبلة، وهي ترتدي أهمية خاصة في العالم النامي، حيث أدت السياسات النيوليبرالية في العقود الثلاثة الماضية إلى اهتراء كبير في هذه المجالات الحيوية.
إن التحوّل في أهداف السياسات الماكرواقتصادية يضمن تماهي الأهداف مع حق الإنسان في التنمية من خلال توافر الفضاءات والبنى العامة لتحقيق الفرد لذاته عبر العمل والإنتاج والإبداع وإنهاء سيطرة الرأسمال المالي والسياسات الاقتصادية الرديفة التي حكمت العالم في الفترة الماضية، والتي أدت إلى أزمات مالية مثالية وزيادة الفروقات بين الطبقات وتهميش القطاعات الاجتماعية، وأدّت إلى اتساع الهوّة بين إمكانية تحقيق حقوق الإنسان الأساسية من حق العمل والتنمية والأمان الاجتماعي ومستوى معيشي ملائم، وبين النتائج الفعلية للاقتصادات الرأسمالية في عصرنا هذا.
* رئيس قسم الاقتصاد في الجامعة اللبنانية الأميركية ــــ بيبلوس
مداخلة ألقيت في مؤتمر «الاقتصاد العالمي وحقوق الإنسان» في جنيف 11 ـــــ 13 كانون الثاني 2010