لغزٌ هذا الخروف!كيف يعرف ويمشي! ...
هذا الخروف الذي هو الإنسان، كيف يقدر أن يقنع نفسه بأن مصيره مختلف عن مصير جاره، عن مصير هذا المريض، ذاك الشقيّ، ذلك المائت؟
كيف يستطيع الزمن أن يواصل نظامه ولا تروّعه عظام مأكوليه؟
خروف!؟ وماذا نعرف عمَّن نُهينهم؟ عمّن نعتبر أنفسنا افهم منهم؟ ما أدرانا بما يشعر الخروف المساق إلى الذبح، والخروف وهو يُعْلَف للذبح؟ ما أدرانا إنْ لم يكن الخروف، الذي نعتبره مُغفّلاً مطيعاً، أوعى منّا بمأساة وجوده؟
كيف نعرف أنّه لا يعرف!؟

■ ■ ■


لعلّ وراء هذه المثابرة على المسير في حياة مآلها الموت، نزعة نصف عمياء، حيث الأمل هو الخوف نفسه. إرادةُ غريزةٍ لا تاريخ لها، غريزةٌ كنغمٍ من تحت الأنقاض. ولعلّ أهمّ ما في هذه النزعة ليس إله الحقّ بل ربّةُ الطيبة، تلك الملتقطة حضيض العجز بذراعَي الحنان، حنان هو الطيبة الخابزة سراب الخلاص على شمس الشفقة، المزدادة نداوتها كلّما طعنت في السنّ. الطيبة الأقوى من الأمل، الأصدق إنباءً من العقل والمعرفة، وهي أصل الإيمان وفرعه، وهي أمّ الأمّهات.
«لحظة مجيئك إلى عالم الوجود هذا، وُضعت سلّمٌ أمامك لتساعدك في الفرار»، يقول جلال الدين الرومي. هذه السلّم هي الطيبة. إنْ لم تَرَها بعينيك تلمّسْها بخوفك. إذا أعيتك الحيلة ارتمِ في الفراغ. لن تقع، سوف تستلقيك ابتساماتُ الأحضان، وتعود العصافير إلى منابر الفجر.

■ ■ ■


يجب أن ننحاز إلى المعجزة لتحصل. أن ننحاز بكامل قدرتنا على الانحياز. الإيمان الذي تخجل به يخجل بك.
أو أن ننحاز إلى الكفر بصدقٍ يُعْجِز المكفور به. المكفور به لا يتحمّل كافراً صلباً مخلصاً بكفره. المكفور به كالمرأة المُستهتَر بإغرائها، الاستخفاف به يُجنّنه بصرف النظر عمّن هو المستخفّ. الحياة تأبى أن يتجاهلها الأحياء. السماء تنطفئ إنْ لم يؤجّج نارها إيمانك.
التطرّف في الحالين.
ليس هناك متروك.
العدم نفسه غير متروك.
المتروك هو المفرَغُ من الحبّ. وهو في الأصحّ تاركٌ لا متروك.

■ ■ ■


من المصادفات اللافتة في الفنون وفي نسيج العلاقات البشريّة، أن الضعفاء حيال العظمة هم أنفسهم ضعفاء أمام الضعف. القمّة ذروة والوادي ذروة في قياس الشعور. خفيةً، لا بدّ أن يكون عالمٌ موصلاً إلى عالم. المهيب أخو البسيط والشامخ أخو الوديع. لا فرق إلّا في الوقع الأوّل، المباشر، بين الباشق والدُوريّ، بين الحَوْرة والحبق. العرى الرابطة تتسامر تحت السطح. سعيد عقل يُرهب لكنّه الأقرب إلى الأنعم الذي هو شوقي أبي شقرا. ليس بين فكتور هوغو ولامارتين الفرق بين السيل والكمنجة كما يُظَنّ، بل الشبه بين الشلّال الهادر والغوص الهامس. كلاهما يحتاج إلى الآخر. ينجذب الرجل المذعور إلى المرأة القاسية كما تنجذب الشمس إلى المغيب. لا يمهّد الشيء دائماً لمثله، بل غالباً للمختلف عنه. إذا كانت الحيّة لا تلد غير الحيّة، فالطبع الفولاذي الجبّار قد يلد أطباعاً مرهفة حدّ الدمع. محمد الماغوط، اليائس الكافر المقهور، سليلٌ غير مباشر لأنطون سعادة: يستقوي الولد الشقيّ بغفران أبيه. يشدّ ظهره بظلّ الأب الذي كم وكم ذبح العجل المسمَّن لكم وكم من أبنائه الشاطرين. لولا تعفّف جرير والفرزدق لما هام عمر بن أبي ربيعة ذلك الهيام بنفسه أوّلاً، ثم بنساء قريش مُشْهِراً مُشَهِّراً غير عابئ بالسياسة، واقفاً شعره على نساء بلده، جاعلاً من هذا الشعر المحصّن بصورة غير طبيعية عن هموم عصره مرآةً غير طبيعيّة، لعلّها الوحيدة من نوعها في الشعر العربي القديم، للمرأة في ربعه.
أدونيس، منظّر الحداثة، هو أوّلاً وآخراً ابن قريته وذكريات الفقر فيها.

■ ■ ■


أمتعُ المقاربات هي بين المباعدات. حمل سهيل إدريس لواء الالتزام وأعلنها حرباً على اللامنتمين، وترجم هو وزوجته عايدة مطرجي العديد من المؤلّفات الوجوديّة الناضحة تارةً باليأس، وطوراً بنظريّات التحرّر ذات الصلة الباهتة جداً بحمّى الالتزام السياسي ومستلزماته. ودعا إدريس، في الخمسينات من القرن العشرين، كلّاً من طه حسين ورئيف خوري إلى مناظرة في قاعة الأونيسكو ببيروت، أدارها هو أمام جمهورٍ غفير وكان أشدّ المستمتعين بالمبارزة وضحك تحت ذقنه، وهو من عتاق الضاحكين تحت ذقنهم، حين كان يولّعها بين المحاضرَين، عالماً سلفاً أن الغلبة ستكون للكفيف المصري. فرئيف جدّي رصين مسربل بوقار تَرَسُّله، وطه حسين ساخر أزهريّ ديكارتيّ فولتيريّ مسترخٍ في نزهةِ مقارعةٍ ضدّ العبوس والتزمُّت الجديد والمحنّطات الحديثة، نزهة تحملها على الأجنحة غزارةُ معطياتها ونضارةُ شروطها واستعداد الجمهور للتأييد على العمى.
ذات يوم انعجق لغويّ كبير هو الشيخ عبد الله العلايلي بمؤسّس مذهب «روحاني» اشتهر بكثير من الأدوار السحريّة، فضلاً عن الدعوات الفكريّة. كان المؤسّس هو الدكتور داهش. ووضع العلايلي، العلايلي الرصين الأكاديمي اليساري المعمَّم، حجّة اللغة وصاحب المعجم الذي لو صدر بتمامه لأحدث ثورةً في العربيّة، وضع العلايلي كتاباً في الإعجاب بداهش. هذا ما كنتُ أرمي إليه: لقاء غير المنتظرات. الزلازل تُحرّك أحشاء الأرض، ولكن على أمل أن تجد لها توازنها ثوابتُ الفصول، راعيات المجرى الدائم، راهبات تضميد جروح ما تمزّقه الشُهُب والأعاصير.

■ ■ ■


العين لا ترمق هدفاً واحداً والأذن لا تسمع صوتاً واحداً والروح لا يرضيها إلّا الكلّ. الروح أمّ، تعرف حاجةَ الكائنات. الروح أمّ لا تضيع بين الأزياء. الأمّ، أي الطبيعة، لا تؤخذ بالأحجام والألقاب. سَير الزمان مرتَّب بين دقّات قلبها.

■ ■ ■


قال يسوع لتلاميذه يوم الشعانين: «دعوا الأطفال يأتونَ إليّ». الذي لم يُغْره شيء، وقد لوّح له الشيطان بالملك جميعه، حرّكته فجأةً نخوة غزو قلوب الأطفال. القمّة تُدْهَش بالسفح، والسفحُ يحلم بالقمّة. وفي تخالط الحماسة بالحلم تختلط القمّة بالسفح والسفح بالقمّة. لم يحصل هذا من قبل. ظاهرةٌ لم نسمع بمثلها عند حكماء الإغريق. كان هؤلاء، وعلى رأسهم سقراط، في معظمهم سفسطائيين. السفسطائي عدوّه السذاجة. غايته الجدل والتغلُّب وبعد التغلّب إذاقة خصمه مرارة كون الجولة كانت بلا هدف. السفسطائيّون، وقد أصبحوا منذ القرن التاسع عشر أئمّة الصحافة بعدما يئسوا من سلاح الفلسفة، لا يحاكيهم إلّا سفسطائيّون. هنا تصبح اللعبة تحت شعار «لنرَ مَن سيرغي الزَبَد أكثر».

■ ■ ■


أحياناً في الواحد نفسه _ في الشاعر والروائي والفنّان خصوصاً _ يتلاقى النقيضان، الطَرَفان. أسخيلوس الإغريقي يهبط بمرعباته ثم يحلّق بعمالقة خياله ونورانيّة أجوائه التراجيديّة القصوى. أوريبيد زميله يتصنّع وينفّر، وعندما يعزف على وتر الشفقة يهزّ كالنبي. وزميلهما سوفوكل إذا زاد عيار الألم والقهر لم يغمط عيار كِبَر الكرامة الإنسانيّة في صميم تظهيره لرخاصة عُود سعادة الإنسان. وشكسبير، أليس هو هاملت فريسة الحيرة مثلما هو ماكبث فريسة التصميم؟ أليس هو بروسبيرو «العاصفة»، الساحر المستمتع بوداع جمهوره، الملتذّ بمشهد توبتهم، مثلما هو بروتوس «الواقع في حربٍ مع نفسه»، محوّل الجريمة إلى فضيلة، كما حَوّلت خيمياء العبقريّة الشكسبيريّة رذائل الإنسان إلى غايات الجمال العليا؟
لنخرج من الشخص نفسه ولنلتفت إلى الطبيعة: مَن كان سيشتاق إلى الجبل لولا البحر؟ وكم كان سيتيتّم الغصن لولا تَطفّل مستظلّيه؟

■ ■ ■


الشعور هو الفيصل. المشهد الذي أمامنا ليس هو ما يوجّه موقفنا، بل الاضطراب الذي فينا. الرئيس هو الشعور. يقال إنّ الكثيرين ممّن يكتبون ويلحّنون ويصوّرون يفعلون ذلك بتمام البرود، كمحترفين. محترفو ماذا؟ محترفو صنعة. صنعة ماذا؟ الكتابة والتلحين والتصوير. يُغفل هؤلاء _ وهم يتكاثرون مع «التطوّر» _ أنّ الصنعة باتت في متناول «الإنسان» الآليّ وأنّ الحاسوب أمهر منهم وأسرع. الصنعة كانت ولم تزل من عدّة المؤلّف والفنّان. لولا الحِرَفيّة المتقنة لتهلهلت تحفٌ كثيرة وانقرضت. على أنّ حدّةَ الذكاءِ وبراعةَ اليدين وامتلاك مفاتيح التِقَنيّة هي اللفظة والحرف لا غير.
كان الشاعر الألماني غوته ذا عبقريّة، لكنّه إلّا في الشطر الأخير من حياته، وقد طعن في السنّ، لم يَنْعم برهافةِ الحسّ ولا بفرط العاطفة. كان بارداً. حيال الأحداث الخارجيّة وحيال التفاصيل الصغيرة. لعلّ هذا ما سهّل له ريادةَ الآفاق الفكريّة والعلميّة والأدبيّة الواسعة وترويض أعتى حقول المعرفة، لكنّه لم يؤتَ موهبةَ هزّ كيان قارئه من جذوره إلى حدّ اقتلاعه. في صباه أوصل بعض قرّائه، بروايته النحيبيّة «آلام فرتر»، إلى الانتحار، لكنّه ليس هو الذي انتحر بل قرّاؤه. البارداتُ من الحسناوات يتركنَ التأثير نفسه في عشّاقهن المساكين. الجلّادون أيضاً متمكّنون حيال الموت، لكنّه موت الآخرين. العبقريّ العادل هو مَن تجرفه مشاعره قبل أن يجرف مشاعر جمهوره. العبقريّة الكاملة عمودها الفقريّ هو الدماغ ومصباحها الشعور. مصباحها وضميرها.
حالةٌ فريدة يتاح فيها للفنّان أن يؤثّر دون أن يبدي تأثّراً هي حالة المؤدّي. يتاح، بل يتوجّب. ليس أحَرَج من منظر مطربٍ يتمطّى ويترنّح ويلولح بذراعيه ويترقوَص وهو يغنّي أو يعزف. للمؤدّي أن ينفعل ما شاء في داخله. الخارج صَنَم والداخل بركان. هذا حقّه، بل هو أضعف الإيمان.

■ ■ ■


إذا فسد الملح فلا يُملَّح، وإذا انعطب في الكمنجة وتر فلا كمنجة. وإذا انكسر جناحٌ للملاك فلن يرتفع.
الشعور مَيْلُ الله في الموهبة والعبقريّة.
إذا نام الله عن مَيْله نام عن الخَلْق.
إذا نام الله عن مَيْله صار كآلهةِ الإغريق والكلدان.
إذا نام الله عن مَيْله فَقَدَ إنسانيّته.
إذا نامت الموهبة، إذا نامت العبقريّة عن الشعور فَقَدَتْ ألوهتها ...