قبل ما يزيد على الاربعين عاماً، أصدر رئيس جمهورية سابق، كان قد امتنع عن تولي رئاسة الجمهورية سنة 1952، عندما كان قائداً للجيش، ثم امتنع عن التجديد أو التمديد لنفسه رئيساً لها سنة 1964، أصدر هذا الرجل، في الخامس من آب سنة 1970، بياناً ختمه في هذه الصورة:«وعلى ذلك، واستناداً الى هذه المعطيات، قررت ان لا اكون مرشحاً لرئاسة الجمهورية، وفي هذا الوقت الذي اعلن فيه قراري هذا، أتوجه بالشكر الى السادة النواب والسياسيين والهيئات والمواطنين الذين اولوني ثقتهم، متمنياً لهم التوفيق في خدمة لبنان».

أيها السيدات والسادة،
لست ممن يُجيد مديح الاشخاص. وقد ثبت عندي في التجارب، في مواقع متباينة، صحة تحريم هذا المديح، لأنه قد يحمل في طياته النفاق من جهة، وقد تكون النية منه وضع اليد على شخص الممدوح من جهة ثانية.
لقد عرفت فؤاد شهاب شخصياً في المودة وفي الاحترام، كما عرفته سياسياً في الاختلاف في الوسائل، وفي الاتفاق على الاهداف.
ولا اجد في ذكرى هذا الرجل، من الناحية الشخصية، افضل من هذه الابيات لشاعر عربي، يُقال انه مسيحي، ويقال انه يهودي، ويقال انه كان على ديانة العرب قبل الاسلام. ولا خلاف في انه عربي في كل الاحوال:
اذا المرء لم يدنس في اللؤم عرضه
فكلّ رداء يرتديه جميلُ
وان هو لم يحمل على النفس ضيمها
فليس الى حسن الثناء سبيلُ
تعيّرنا أنّا قليل عديدنا
فقلت لها ان الكرام قليلُ
ولا زيادة لمستزيد.
أيها الحفل الكريم،
في ذكرى فؤاد شهاب اليوم، ما خلاصة القول في ما هي عليه أوضاع اللبنانيين سنة 2012؟
«إن المؤسسات السياسية اللبنانية والاصول التقليدية المتبعة في العمل السياسي، لم تعد، في اعتقادي، تشكل اداة صالحة للنهوض بلبنان (..) في جميع الميادين، وذلك ان مؤسساتنا التي تجاوزتها الانظمة الحديثة في كثير من النواحي سعياً وراء فعالية الحكم، وقوانيننا الانتخابية التي فرضتها احداث عابرة ومؤقتة، ونظامنا الاقتصادي الذي يسهل سوء تطبيقه قيام الاحتكارات، كل ذلك لا يُفسح في المجال للقيام بعمل جدي على الصعيد الوطني، ان الغاية من هذا العمل الجدي هي الوصول الى تركيز ديموقراطية برلمانية اصيلة صحيحة ومستقرة، والى الغاء الاحتكارات ليتوفر العيش الكريم والحياة الفضلى للبنانيين في اطار نظام اقتصادي حر سليم، يُتيح سُبل العمل وتكافؤ الفرص للمواطنين، بحيث تتأمن للجميع الافادة من عطاءات الديموقراطية الاقتصادية والاجتماعية الحق. ان الاتصالات العديدة التي اجريتها والدراسات التي قمت بها عززت قناعتي بأن البلاد ليست مهيّأة بعد، ولا معدّةً لتقبّل تحوّلات لا يمكنني تصوّر اعتمادها الا في اطار احترام الشرعيّة والحريّات الأساسيّة التي طالما تمسكت بها».
أربع نقاط:
الاولى هي ان هذا الكلام ليس من كلامي، بل هو من كلام فؤاد شهاب. وهو كلام أتبناه.
الثانية وهي انه ليس في وصف اوضاع اللبنانيين في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، بل هو في وصف اوضاع اللبنانيين في مستهلّ العقد السابع من القرن العشرين. وهو وصف اتبناه.
الثالثة هي ان التحولات المطلوبة لا يمكن اعتمادها الا في اطار احترام الشرعية والحريات الاساسية. وهذا ما أوافقه فيه في الامس البعيد وفي الامس القريب واليوم وفي الغد.
الرابعة وهي ان ما تقدم كان اسباب فؤاد شهاب للامتناع عن الترشح لرئاسة الدولة، لأن قناعته ان البلاد ليست مهيّأة بعد ولا معدة لتقبل تحولات لا يمكنه تصور اعتمادها الا في اطار الشرعية والحريات الاساسية. هل هذا هو الوضع اليوم في لبنان؟ وهل يملك اللبنانيون ترف الانتظار؟
اجابتي عن هذا السؤال انما تقع في دائرة ما سميته الاتفاق على الاهداف والاختلاف في الوسائل.
والواقع اننا اليوم يفصلنا عن فؤاد شهاب وعما كان عليه الوضع الواقعي والدستوري الكثير. الكثير مما هو بالغ السوء والكثير مما فيه الامل.
الدستور اللبناني اليوم، اي اطار الشرعية والحريات الاساسية، انما يضم نصاً في مقدمته، يجعل من الشرعية ومن الحريات الاساسية نزع الشرعية عن اي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك.
فمن الألف الى الياء: «لا شرعيّة لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك».
أيها الحفل الكريم، ايها اللبنانيون،
لستُ إلا مواطناً عادياً. ولستُ مسؤولاً الا مسؤولية المواطن العادي.
لقد علمتُ وأخطأت.
وجهلتُ وعرفت.
أقولُ لكم لا إصلاح الا بثورة مدنية.
لا إصلاح، بل لا خلاص الا بأن تقرروا مصيركم:
بانتخاب جمعية تأسيسية تمثل جميع اللبنانيين، بميثاق حضاري ودستوري. دولة مدنية.
جمعية تأسيسية تمثل جميع اللبنانيين لا الاغنياء وحسب، الاغنياء بمال الدول الاجنبية وبالمال العام المنهوب.
جمعية تأسيسية تكونون فيها شعباً، لا أقولُ واحداً، فليس لكم الا ذلك، أو تكونوا أيتام الدول.
أيها اللبنانيون، أيها الشباب اللبناني،
ارفضوا ما يُعدّ لكم من قانون انتخاب يمنعكم من أن تكونوا مواطنين اصحاب السلطة، أو مما يُعدّ لكم عبر المناورات للإبقاء على هذا القانون، الذي رأيتم نتائجه وترون نتائجه كل يوم.
أيها الحفل الكريم،
لقد شرفني الحديث اليكم في ذكرى فؤاد شهاب. ولم اجد، وفاءً لتجربته في بناء الدولة، سوى الدعوة الى ثورة يكون فيها اللبنانيون من كرام الناس.