مثل الهاربين دخل رَجل إلى الجمعيّة. انتظر المسؤول فيها على كرسي أبيض، وحدق في الجدران كأنه يريد اقتلاعها. كان يهزّ ساقيه كأن الريح تحته. لم يأخذ وقتاً طويلاً للدخول في صلب الموضوع: لا يعرف التعامل مع ابنه المتوحّد. عاد الطفل إلى المنزل قبل يومين بعدما اضطرت المؤسسة التي تتولى تأهيله إلى الإقفال. طردته الدولة. لا تفسير آخر. قال الرجل الخمسيني أيضاً إن والده مريض، والضمان لا يقبل إدخاله إلى المستشفى. سينتحر. فقد ابنه المكان الذي يجيد العيش فيه، ووالده سينسى أن يعيش. ناس مثل هذا الرجل لا يحتاجون إلى الكلام. ملامحه الخمسينيّة كانت كافية لصناعة المشهد، غير أنه أكمله حتى النهاية، وأجهش في البكاء.
محاولات العهد الشهابي

أقفلت 34 مؤسسة معنيّة بشؤون المعوقين أبوابها بعدما «غدرتها» الدولة. 34 مؤسسة من أصل 56 في طريقها إلى الانتهاء. تاريخيّاً، يعود الفضل في التعاون بين الجمعيّات التي تعنى بشؤون المعوقين والدولة اللبنانيّة، إلى الرئيس السابق فؤاد شهاب. في عام 1950 شهدت البلاد تطوراً مؤسساتياً ملحوظاً. ووفقاً للمدير العام لـ«مراكز الكفاءات» رئيف شويري، الرئيس شهاب هو أوّل من نظّم هذه العلاقة، بعدما «لمس» حسّاً اجتماعياً لدى الجمعيّات. أدت مساعي الرئيس حينها إلى اتفاق بين الطرفين، بموجبه تقدم الجمعيّات «البنى التحتية» اللازمة لرعاية المعوقين، من أراضٍ ومبانٍ وكوادر بشريّة متخصصة، على أن تصرف الدولة من ميزانيتها تكاليف القدرة التشغيليّة لهذه المؤسسات. منذ البداية كان الموضوع واضحاً: الدولة «في عزّها» خلال عهد شهاب، لم تكن قادرة وحدها على حلّ المشاكل الاجتماعيّة الموجودة. صحيح أن أغلب الجمعيّات في حينها كانت ذات صبغة انسانيّة، إلا أن معظمها كان مصبوغاً بالطائفة أيضاً. يذكر شويري أن معظم الجمعيّات التي كانت قادرة على توفير بنى تحتيّة لازمة، كانت على علاقةٍ بالأوقاف، لكن هذا لم يحدث مشاكل. وبشهادة معظم الجمعيّات، حققت «مبادرة» العهد الشهابي مفاعيل إيجابيّة.
قلائل هم الذين يذكرون «مصلحة الإنعاش الاجتماعي». كانت هذه المصلحة النواة المؤسّسة لما صار لاحقاً وزارة الشؤون الاجتماعيّة في 1993. وفي مصلحة الإنعاش، كان هناك ما يسمى «لجان تحديد التعريفات»، أي التكاليف التي يفترض أن تدفعها الدولة للمؤسسة الإنسانيّة. ليس المعوقون وحدهم من يحتاجون إلى الرعايّة. هناك الأيتام والرضّع والمتوحدون، وغيرهم كثيرون. ظلّت لجان التعريفات تؤدي واجباتها حتى أثناء الحرب الأهليّة. كل عام تحدّد التعرفة قبل شهر آذار، والدولة تلتزمها. وثبّت هذا «العقد» لاحقاً، في النظام التأسيسي لوزارة الشؤون الاجتماعيّة.
لم تعانِ المؤسسات إلا في منتصف الثمانينيات، حين تدهورت قيمة الليرة اللبنانيّة، ولكن العجلة بقيت تدور وتدور إلى أن توقفت في 1996. آخر دراسة كلفة كانت في ذلك العام. ومُذّاك، بدأ مسلسل «التنكيل» بالجمعيات. في 2001 أجريت دراسة «ناقصة» جديدة «لم تلتزمها الدولة». وفي 2004، أجريت دراسة جديدة بقيت حبراً على ورق؛ إذ إن الدولة ظلت تدفع وفقاً لحسابات 1996، غير آخذة في الحسبان التحولات الاقتصاديّة الهائلة التي حصلت في 8 أعوام. بعد خمسة أعوام، في 2009، جاء وزير «إصلاحي» إلى «الشؤون الاجتماعيّة» هو ماريو عون. قرّر الأخير تطبيق كلفة 2004 في 2009 عوضاً عن القانون، أي وضع دراسة كلفة تلائم الواقع في 2009. قبلت الجمعيّات بالقليل، إلا أنها لم تنله؛ فقد دفعت الدولة اللبنانيّة 60% من تعرفة 2004 لأشخاص هي ملزمة أن تدفعها لهم على معايير 2009. وطبعاً، وفقاً لمسؤولين في مكتب التنسيق الخاص بجمعيات رعاية المعوقين، كانت الدولة تدفع المستحق عليها، متأخرة ثلاثة أشهر دائماً. لم يكن هذا «إصلاحاً»، بل «ترقيعاً». استمرت رحلة التنكيل اللامتناهي بأضعف فئة في المجتمع، ومنذ ثمانية أشهر لم تدفع الدولة المستحقات التي تبلغ قيمتها في الأساس أقل من ربع المستحقات الحقيقيّة.

1996 ــ 2011: التنكيل المتواصل

في 2011 جاء الوزير صاحب الخلفيّة الاشتراكيّة: وائل أبو فاعور. وعلى ذمة مكتب التنسيق، سارع إلى تأليف لجنة تحديد التكاليف المطلوبة على قياس الواقع، أي على قياس 2011. أنهت اللجنة عملها وضمّت ست وزارات (المال، الاقتصاد، الصحة، التربية، العمل، والشؤون الاجتماعيّة)، وممثلين عن مكتب التنسيق الخاص بالجمعيّات. وفي آب المنصرم وقّع الوزير الدراسة والمرسوم. في مجلس الوزراء «اعترفوا به، لكن لا قدرة على توفير المبالغ المطلوبة». 30 مليار ليرة لبنانيّة هو المبلغ الذي وصلت إليه الدراسة، قبل 2012. والجميع يعلم، أن هذه الأرقام لم تعد صالحة الآن، بعد الزيادة «الغريبة» على الأجور، والغلاء المعيشي المتفاقم، وارتفاع أسعار المحروقات، إلخ.
أخطر ما في الأمر هو زجّ الموضوع الإنساني في السياسة، على الطريقة اللبنانيّة. يربط المسؤولون المباشرون عن الملف اليوم، المبلغ المطلوب، بمبلغ 8900 مليار المربوط أصلاً بالـ11ملياراً المتنازع عليها بين أقطاب السياسة في لبنان. ويخشى الفريق الحاكم صرف المستحقات عبر سلفة من الخزينة كي لا يستغل الفريق الآخر الموضوع، ويقارنه بقضيّة الـ11 ملياراً التي يصنّفها فريق المعارضة حالياً نفقات إضافيّة خارجة عن الموازنة. هل قلنا موازنة؟ لم تقرّ بعد. وعلى الرغم من زيارات أبو فاعور الكثيفة لأقطاب «الترويكا» المعاصرة، لا جديد.
الحديث هنا، ليس عن بيروقراطيّة مكتبيّة معقدة أو عن روتين إداري رتيب. هناك من يسعى إلى «تسييس» ما لا يسيّس. لذلك، حتى مساء أمس، كلا الوضعين على حاله. الوزير «يتحرّك» (راجع الإطار)، ومكتب التنسيق الذي أقفلت 32 من جمعياته «يتحرّك» أيضاً، من دون أصداء. الجميع في الدائرة المغلقة. 9 آلاف طفل بحاجات خاصة بلا رعايّة في منازلهم، نتيجة تقاعس الدولة عن دفع المستحقات المستحقة عليها، ورفع التعرفة الرعائية إلى 16 ألف ليرة (معدّل وسطي غير ثابت عن كلّ معوق كان 5 آلاف ليرة على قياس 2004)، كما أقرّتها وزارة الشؤون الاجتماعية في عام 2011.

يبدو الرقم مهولاً للوهلة الأولى. لكن بالنظر إلى الواقع، قد يعدّ قليلاً بالفعل. لطالما تحدّث المتابعون في السنوات الماضية عن «تزوير» ممنهج باسم المعوقين، مستغلين الآليّة التي تجري فيها الأمور. يؤكد هؤلاء اليوم وجود كثيرين ممن يقبضون من الدولة تحت ذريعة الإعاقة، وذلك من دون الكشف الجدّي عن واقعهم. وفي الأصل، الشائع أن الجمعيّات تهتمّ بالمعوقين، غير أن الأمور تحصل بطريقة مختلفة تماماً. ليس صحيحاً أن الجمعيّات تستقبل المعوقين مباشرة، باستثناء الذين يولدون مع إعاقات خاصة. الدولة لا تعترف بالمعوّق قبل سن الخامسة. منطقٌ «نازي» لا تفسير آخر له. فالطفل، وفقاً لشويري، في هذه الفترة تحديداً، يحتاج إلى أكبر كمّ من الرعايّة كي لا تتفاقم إعاقته.
قد يحسب الأمر دفاعاً عن الجمعيّات، لكنه ليس صحيحاً. هذا دفاع عن حقوق المعوقين وحسب. 14% من اللبنانيين هم من أصحاب الاحتياجات الخاصة. هذا ما تؤكده إحصاءات وزارة لشؤون الاجتماعيّة نفسها. غالبيتهم من المسنين، وعدد كبير منهم أصيب خلال الحرب وبعد الولادة بقليل. لا يكفي هؤلاء ما يلاقونه من عنصريّة وقحة، تكاد تكون متجذّرة في وعي جماعي مفعم بعنصريّة عفنة تجاه كل شيء يعدّ ضعيفاً. في بلدٍ تظلم فيه العاملات الأجنبيات بالنصوص القانونيّة والمعاملة الفردية، وتُلاحق المؤسساتُ الأمنية اللاجئين إليه، ليس غريباً أن يسود مصطلح «معاق» كشتيمة. ليس غريباً، لكنّه عار آخر يضاف إلى «عارات» كثيرة لا تعدّ ولا تحصى. في أية حال، «نصف» المعوقين ينجح في العمل لاحقاً، ونصفهم الآخر لا يقوى على تركيبة المجتمع القاسيّة. هذه إحصاءات الجمعيّات النظرية. في المقابل، تظهر دراسة أجرتها وزارة الشؤون الاجتماعية (2009) صورة قذرة للمجتمع اللبناني في تعاطيه مع المعوقين. نسبة العاطلين من العمل 83% منهم. مرفوضون أساساً في المجتمع. ولعل هذا ما يفسّر «برودة» الدولة في التعامل مع مستحقاتهم الماليّة. برودة ما بعدها برودة: 43،8% منهم محرومون تماماً. واحزروا ماذا. لبنان وقّع قوانين واتفاقيات تحفظ حقوق هذه الفئة في العمل. قوانين كالملح في البحر، لا تطبّقها إلا بعض الشركات، التي تأخذ في الاعتبار ضرورة تطبيق القانون 220، الذي يلزم الشركات توظيف «كوتا» معيّنة من المعوقين. معوقو لبنان يتعرضون لأبشع أنواع التمييز على المستوى العملي، لا الثقافي وحسب. إنهم مؤشر فعلي لمستوى التطوّر الذهني على المستوى الفردي في القضايا الإنسانيّة، وأيضاً، مؤشر لمستوى التزام الحكومات واجباتها أمام العالم. مهزلة أخرى. الجملة الأخيرة مهزلة أخرى. يهان هؤلاء في الشوارع. 7000 واحد منهم في الشارع أصلاً. وحين يذهبون إلى الانتخاب أو إلى المرافق العامة لا تحترم حقوقهم، وفقاً لعشرات التقارير التي أعدتها حملة «حقي». إهانات بالجملة للفئة التي يراد لها أن تكون مسحوقة. واليوم، فضلاً عن الوصول إلى العدم، في ما يخص الماديات، هناك معالج فيزيائي لكلّ 150 معوقاً مثلاً، بعدما كان هناك معالج لكلّ 20. ورواتب هؤلاء المعالجين ليست على ما يرام هي الأخرى. بعض الجمعيات لم تدفع لهم؛ لأن الدولة لم تدفع، فغادروا إلى منازلهم قبل الإقفال القسري. يجب أن يكون واضحاً أن المعوقين الذين طردتهم الدولة إلى بيوتهم اليوم هم نصف العدد الإجمالي. بعد «الإقفال القسري» في مكتب تنسيق الجمعيّات المعنية بشؤون المعوقين، أخيراً، عاد 5500 (من أصل 1600 معلن عنهم) معوّق إلى منازلهم. لا يعني ذلك أن البقيّة يحظون بالرعايّة اللازمة. قطعاً لا. فهم في الشارع. هذه هي الحال اليوم: نصف معوّقي لبنان في الشارع، ونصفهم الثاني في المنزل. هؤلاء الذين يعرفهم الجميع. هل هناك لبنانيّ لم يلتق معوقاً في حياته على رصيف هنا أو وسط تقاطع هناك؟ هل هناك لبنانيّ لا يعرف ما تركته الحرب في هؤلاء؟ ماذا ينفع وصف المآسي وعدّها في حالة كهذه؟ لا ينفع. بيد أن وصف حكومات تتنصّل من أبسط مهماتها تجاه هؤلاء قد يكون مجدياً: الحكومات هي مجموعة رجال بربطات عنق ملونة. سياراتهم مصفحة دائماً ويبتسمون للكاميرات كأن الواحد فيهم «جيمس بوند». قطعاً، من يتغاضى عن حقوق المعوقين، ويطمسها ويمعمعها في وحل السياسة المقيت، لم يسمع يوماً أنين طفل ولد بدماغ مشلول، أو عن آخر سُحقت حواسه بلا ذنب. لا يعرفون شيئاً من هذا كله. لا يعرفون كيف يكون مشهد الوالد الذي بكى في مكتب الجمعيّة. لا يعرفون أن المعوقين لهم أمهات وآباء يتألمون بكبرياء لأن المجتمع لم ينصف أولادهم، لا تمرداً على إرادة غيبيّة. لا ينامون كالآخرين. لا يعرفون فتاة لا تتكلم، فرفضتها المدارس. لا يعرفون شاباً يشاهد مباريات كرة القدم ولا يسعه تشجيع فريقه الخاص والتهليل له، لأن يديه ميتتان منذ ولادته. لا يعرفون مراهقاً محروماً التصفيق. يعرف السياسيون المصفقون. ميليشيات أنيقة شُلّت عاطفتها، وقرّرت، شعباً وحكومات، المشاركة في هذا العار.



أبو فاعور: لا حلّ قبل الأربعاء

منذ لقائه الأول مع الجمعيّات، أبدى وزير الشؤون الاجتماعيّة، وائل أبو فاعور، حماسةً لافتة لحل الموضوع، فأسس اللجنة المطلوبة لتحديد التكاليف، وبادر بسرعة، يعتبرها مكتب التنسيق « قياسيّة» مقارنةً بأداء الوزراء السابقين، إلى طرح الموضوع في مجلس الوزراء. لكن المباحثات في مجلس الوزراء أول من أمس، شهدت تعنتاً بربط حقوق المعوقين بالـ 8900 مليار، من دون بروز أي حلول في الأفق.
وفي حديث مع «الأخبار »، أكد أبو فاعور أن الأزمة مستمرة حتى جلسة الأربعاء المقبل، في أقل تقدير، بسبب «رفض قاطع لمنح سلف من الخزينة لأي قضيّة»، غير أنه متفائل؛ «لأن قضية ذوي الحاجات الخاصة ستكون في طليعة الاستثناءات في حال وجود استثناءات». برأيه الذي أدلى به أمام وفد من ممثلي المؤسسات أول من أمس «نحن لا نتكلم على جسور ولا عن غاز في البحر». بدورهم، يؤكد مسؤولون في مكتب التنسيق أن الوزير _ حتى الآن _ لم يقصّر في شيء، بل وفى بوعوده، إلا أن القصة عالقة في وزارة المال «التي تعترف بأحقيّة المعوقين بالثلاثين ملياراً، مصرة على عدم قدرتها على الدفع». وقد حاول أبو فاعور القيام بجهد مضاعف، داعياً بـ«الفم الملآن»، وفق تعبيره، المعنيين «إلى إنجاز سلفة خزينة لدفع مستحقات المؤسسات»، ومطالباً المعرقلين بأن «يتخلوا عن طهرانيتهم قليلا أمام مصالح المعوقين لأن الموضوع يوازي بأهميته الرواتب والأجور».