«خيارُ الجزائر: صوتان وذاكرة» (Le choix de l’Algérie: deux voix, une mémoire) الصادر أخيراً عن «دار البرزخ» بتقديمٍ من مناضل الاستقلال والوزير الأول السابق رضا مالك، هو قصّة حياة بيار وكلودين شولي: «فرنسي من الجزائر» «وفرنسية من فرنسا» لم يتردّدا في الالتحاق بجبهة التحرير الوطني حالَ اندلاع الثورة الجزائرية، في تشرين الثاني (نوفمبر) 1954، واختارا الجزائرَ بعد تحرُّرها في 5 تموز (يوليو) 1962، موطناً وجنسيّةً لهما ولأبنائهما.
وعدا أنها قصة حياة والتزامات كاتبيْها، تعدّ هذه المذكرات تحيَّة إجلال لكل جزائري وجزائرية من أصل أوروبي فهموا أنْ لا مستقبلَ لجنتهم المشمسة طالما بقيت مضبوطةً على توقيت ساعة استعمارية بالية، فكان خيارُهم «خيارَ الجزائر» ودفعوا ثمنَ ذلك تهميشاً في محيطهم الاجتماعي أو موتاً برصاص «منظمة الجيش السري» التي جنّدت في بداية الستينيات غلاةَ «الجزائر الفرنسية».
في القسم الأول، يروي المؤلّفان «حياةً أولى» لهما قبل أن يلتقيا ويقابلا الثورةَ الجزائرية، يفصّلان قصة انفلاتهما التدريجي من الأقلية الأوروبية المقيمة آنذاك في الجزائر التي كانت غالبيتُها تحت وطأة إيديولوجية كولونيالية مقيتة، ترى الفصلَ بينها وبين «الأهالي طبيعياً بل ضرورياً. يقدّم هذا القسم للقارئ صورةً فوتوغرافية وافية لعالم عتيق، غرق بغرق سفينة الاستعمار. عالمٍ وُلد وتطوّر «موازياً» لعالم «الأنديجان» (السكان الأصليون)، واقتصرت علاقاتُه به على القمع الوحشي في الحرب والاستعلاء العنصري في «السلم».
كان لقاءُ الشابين المثاليين المتشبعين بالقيم ذاتها في 21 ت2 (نوفمبر) 1954، أي بعد ثلاثة أسابيع على بدء الكفاح المسلح ضد الاستعمار. وبهذا اللقاء اتّحد مصيراهما، فانطلقا على درب التضامن مع المضطَهدين «الأنديجان» في سعيهم إلى الاستقلال ثم شاركاهم، كجزائرييْن، بناءَ دولتهم المستقلة. قرارٌ واحد بالالتزام السياسي والإنساني اتّخذاه وهما بعدُ في ريعان العشرين، وطريقان مختلفان للوصول إليه: طريقُ الكاثوليكية الاجتماعية بالنسبة إلى بيار الذي كان أبوه أحد قادة الحركة النقابية المسيحية، وطريقُ أفكار المدرسة العلمانية الإنسانيةِ بالنسبة إلى رفيقة دربه كلودين التي انتقلت إلى الجزائر مع أسرتها في الخمسينيات، لتُفتح لها أبواب حياة جديدة في بلد جديد.
بعد الاستقلال، عمل بيار طبيباً مختصاً في السلّ والأمراض الصدرية وتقلّد مسؤوليات عدة في قطاع الصحة العمومية، فيما عملت كلودين باحثةً في علم الاجتماع مختصةً في العالم الريفي ووضع النساء الريفيات. ومن موقعيهما المختلفين، عاشا تواليَ الأحداث والحقب التاريخية. عرفا التفاؤل وهما يشهدان الشبكةَ الصحية والمدرسية تتوسّع إلى أعالي الجبال وأطراف السهوب و«الثورةَ الزراعية» تُخرج الأريافَ من عزلة شبه أزلية، ثم رأيا انحدار الجزائر إلى هاوية الليبرالية في الثمانينيات وصعودَ الحركة الإسلامية في التسعينيات، ما أجبرَهما على الهجرة (إلى فرنسا ثم سويسرا) حتى 1999. لم تفقدهما الخيبات التي كانت أحياناً نصيبَهما، وما رافقها من تمزق عائلي وعاطفي، إيمانَهما بالمستقبل. بلدُهما لا يزال، في نظرهما، واقفاً على قدميه بعد عقدين من «الاقتصاد الحر» وعقد من العنف السياسي، والأجيالُ التي ساهما في تكوينها لم تتحول كلُّها إلى كتائب أصولية أو طوابير ليبرالية متبجحة.
هذه الأجيال هي من يخاطبُها بيار وكلودين شولي في مذكراتهما، راجييْن أن يجد فيها «الشبان والشابات الجزائريون (...) عناصرَ ماض لا يعرفونه جيداً وقد لا يتصورون أصلاً أنه وُجد يوماً»، وآمليْن أن «يكوِّنوا عن بلدهم صورةً حداثة وانفتاح، هي صورةُ الرجال والنساء الذين ألقوا بأنفسهم في غمار الكفاح التحرّري».



سرد بصوتين

جاءت أقسامُ الكتاب الأربعة الأخرى في شكل سرد بصوتين (منفردين تارة وموحّدين طوراً)، يسلّط الضوءَ على ملابسات عدد كبير من الأحداث التاريخية المؤثرة إبان الثورة الجزائرية، حيث تنوّعت أسفارُ بيار وكلودين شولي بتنوّع المهام التي كُلِّفا بها، من قبل الحكومة المؤقتة (مقرها العاصمة التونسية آنذاك) ثم من طرف الدولة الجزائرية. وإضافة إلى كونه وصفاً مفصّلاً لنضال مثالي وقصّةَ تضامن إنساني نادرةَ المثال، فـ«خيار الجزائر» هو روايةٌ شخصية ذاتية لفترة الاستقلال، وما توالى على البلاد من مِحن وما عبقت به سماؤُها من أحلام، من أولى سنين الحرية الجامحة إلى أيامنا الكئيبة هذه.