ذهبت إلى صمتٍ لن يذهب بها. وردة... صوتٌ لازمَ الفرح وحضورٌ أمدّنا بشيء من طاقته وحيويّته في أوقات حلوة ومرّة. لا تقتصر سطوة النجمات اللامعات والمؤثّرات من طينة وردة على أصواتهن ومدى عذوبتها وقوّتها، بل تكمن في شخصيّاتهن وشخصية أصواتهن قبل كلّ شيء. ولعلّ شخصية وردة وشخصية صوتها خوّلتاها دخول عالم الغناء والفنّ والبصْم فيه. لم تنذرنا السيّدة البشوش والمعطاء برحيلها. يؤاسينا أنّها مضت مثلما بدأت مسيرتها بكامل سطوعها، مع فارق أنّها ذهبت أوّل من أمس إلى أغنية بعيدة لم يلحّنها آدميّ، وأنّ صوتها سيغمر غيابها طويلاً. لطالما ردّدت في بيروت «وحشتوني...».
«وحشتينا» يا وردة! يتوَّج هذا الشوق اليوم بعرس يرجّع غناءكِ، غناءنا، ويستحضر صوتاً أخضر إذا جاز وصف الأصوات بالألوان. استمدّ خضرته من جزائره وطراوته وفطريّته، ونهل من النيل فرشح ألوانه وتدفّق. رغم تمرّس وردة بالغناء والطرب الشعبيّ الذي داخلَ البوب، ثمّة ما يجعلك تشعر بأنّه خام. كأنّه أبى أن يتقولب وفقاً للقواعد والمعايير الصارمة. مثّلَ صوتها زهرةً برّية، إن لم نقل إكزوتيكية، ما تلمّسه محمّد عبد الوهاب قبل غيره («الأخبار» ٢/9/ ٢٠١١). ولعلّه فُتن بجموح حنجرتها. مثّلت «في يوم وليلة» إكليل تعاونهما، وكرّستها مطربة عربية شعبية تاريخية. لم يعلُ نجم وردة إلا بعد رحيل أم كلثوم التي خطفت الأبصار لا عن وردة فحسب، بل أيضاً عن معظم المطربات اللواتي عاصرنها وغنّين باللهجة المصرية. لا مجال للمقارنة بين صوت «كوكب الشرق» العملاق والملتهب، وصوت وردة الدافئ والسيّال والمُعرّش. «قلبي سعيد» (ألحان سيد مكاوي) ساهمت في ازدياد شعبية وردة من المحيط إلى الخليج، إضافة إلى مجموعة أغنيات لحّنها محمد الموجي وبليغ حمدي وغيرهما، قبل أن تتصاعد الموجة «الشرنوبية» (صلاح الشرنوبي) في التسعينيات، وتُعلي شأن وردة التي أحرزت نجاحاً مدوّياً. صحيحٌ أنّها أدّت لوناً شعبياً خفيفاً ورائجاً يعدّه بعضهم استهلاكياً، إلا أنّها لم تتردَّ في الابتذال. أغنيتا «بتونّس بيك» و«حرّمت أحبّك» أصبحتا على كلّ شفة ولسان. يحمل صوت وردة وأداؤها وأغنياتها على الانبساط. هنا يكمن سرّه وتأثيره السحريّ ـ النفسي في مجتمعات مأزومة، تتوق إلى الحرّية والانشراح. بهذا المعنى، مثّلت أغنيات وردة (بعد التسعينيات) تعويضاً رمزياً عما تحمّلته شعوب بأسرها (الشعب اللبناني، والمصري، والجزائري...). مثلما أنّ مقارنتها بأم كلثوم تعدّ غير متبصّرة، مقارنتها بفيروز الكونية هي غير جائزة. الفنّانات الثلاث استملن القلوب ويمكن إدراج أسمائهن في قائمة واحدة، إلى جانب اسم صباح. أُعجبت وردة بأسلوب زياد الرحباني في التلحين والتأليف، ورغبت في أن يمنحها أغنية، لكنّ أمنيتها لم تتحقّق. هي التي بدأت بالغناء بالفرنسية، قبل أن تختار الأغنية العربية طواعية، وحرّكت مشاعر عشرات الملايين بأدائها الزاخر بالانفعالات وحنجرتها الباذلة. سيُفتقد حضورها الصلب في ظلّ المدّ الظلاميّ راهناً، وسيبقى صوتها يصدح كأنّما ليذكّرنا في غمرة بؤسنا واغترابنا عنّا، في ظلّ تصدّع الواقع العربي، أنّ الغناء لا يزال ممكناً.