بوتشي والبطيخةمنذ عودتي المؤقتة واللانهائية الى المهجر الأول لعائلتي، وهو مخيّم بلاطة للاجئين في نابلس، وأنا أعصر ذاكرة طفل غادر المخيم وهو يبلغ من العمر عاماً واحداً. حاولت أن أجمع الصور قبل أن يدخل بنا التاكسي الى هناك. تذكرت جدي الذي كنت أسرق منه العصا وأهرب بها، وأشياء أخرى معتمة وبسيطة. لما دخلنا وكان عمري قد أصبح 7 سنوات، اكتشفت أن كل المخيمات متطابقة، مع اختلاف العملات والأنظمة الحاكمة والأعلام الكثيرة، لكن علم الأونروا الأزرق (تحية هنا الى السماء الزرقاء) كان موحداً. كنت مع شقيقي أحمل بعض الشيكلات* (العملة الاسرائيلية) منتظراً فترة السلامات والتسليمات وجحيم القبل اللامتناهي، حتى أنطلق لأستكشف المخيّم الذي عرفت أنه عبارة عن شارعين ومليون «زقة» وآلاف الشعارات على الجدران عن حق العودة، ورسم حنظلة في كل مكان. وبغريزة الطفل، ظننت أننا سنعامل كالغرباء ويلزمنا فترة للتكيّف والتعرف على أترابنا.
ذهبت مع أخي الى مركز «المعوقين» الذي كانت عمتي الراحلة تديره وتعطي دروساً في محو الأمية للعجائز، دخلنا وفجأة أطل ولد من جيلنا، أسمر الملامح برغم أنه أشقر. لكن شمس المخيم أضافت حروقاً صبغية على محيّاه أعطته مسحة من الجنون، وأكدت ابتسامته البلهاء هذا الانطباع. كان هذا بوتشي. وبوتشي هو الكلب الصغير الذي كان مع «بيل وسبستيان» في مسلسل الكرتون الذي يحكي مغامراتهم في جبال الألب، لا أعرف لماذا أطلقوا عليه اسم بوتشي، لكن بوتشي كان يحمل نصف بطيخة كان قد التهم معظمها. ما إن لمحنا بوتشي حتى اقترب ولطش أخي محمود بالبطيخة على وجهه، ثم ضحك ضحكته المجنونة وهرب. لا أعرف لماذا لطشه بالبطيخة. لكن بعد سنين كبر بوتشي، الذي تبيّن أنه لم يكن مجنوناً أبداً، بل مجرد ولد طائش في الأزقة، ليصبح من أبناء «المخيم العالمي الكبير للاجئين الفلسطينيين»، ممن سيطلق «علينا» لقب «الأمة المخيمجية الكبرى» مع اعتذاري من الزعيم أنطون سعادة ونسور الزوبعة. أطفال هذه الأمة ما إن يشاهدون صحافياً أو أجنبياً في المخيّم يحمل كاميرا حتى يبدأ الشعار الرسمي بالظهور: علامة النصر الأبوعمّارية «نسبة للراحل ياسر عرفات». البنات يرتدين «بلايز» الصوف الملونة. الفقر الطاحن كحروب توزيع المعونات على اللاجئين، تذكر يافا، شرب الشباب في الليل، بيع السجائر بالفرط. الأمة المخيمجية أمة مكافحة وعظيمة، فأبناء المخيم يناضلون أيّما نضال للدراسة والتعلم. برغم الفقر والعوائق السياسية إلا أن بوتشي ونظراءه أصبحوا اليوم صحافيين وكتّاباً ومهندسين وشعراء ومروّجي مخدرات ولصوصاً وتجار أسلحة وأطباء ومدمني مشروب وحشيش. كلهم يكافحون، يشقون طريقهم في مجتمعات تزدريهم وتنظر إليهم كفئة دونية من البشر ممنوعين من كل شيء، منذ كان آباؤهم يرشّون «الدي دي تي» على رؤوسهم خوفاً من القمل ويحلق لهم «ع الزيرو»، كانوا إذا عملوا يأخذون نصف أجرة العامل. لكن أبناء الأمة المخيّمجية اليوم، نسور بطيخة بوتشي، أصبحوا عاملاً مهماً في السياسة الدولية. فهناك بعض اللاجئين من قد يرضى بالتوطين من باب «مستوطيين حيطنا»، الذي يغطيه الزينكو المقدس، ومنهم من سيبقى يشق الحياة نصفين كما فعل بوتشي ببطيخته التي جعلته اليوم، أكبر صاحب سيارة تبيع البطيخ في المخيّم.
لكن بوتشي لا يضرب الناس بالبطيخ بعد اليوم، فأبناؤه يكملون المهمة ولكنهم لن يضربوا أبناء أخي بل سيضربون أبناء بلدتهم الأصلية، حين يعودون الى قراهم المحتلة التي شردوا منها عام 1948.
الأردن ـ معاذ عابد

■ ■ ■

ابن مخيم «حربوق»
غريب أمر المخيّمات، أما الأغرب فهم أطفال المخيمات أنفسهم. في كل مرة أدخل إلى مخيّم برج البراجنة أكتشف أشياء جديدة. في إحدى المرات، أرادت صديقتي تصوير أولاد المخيّم. سرنا في الازقة، في أحدها كان هناك عدد من الاطفال يلهون بالقرب من أحد «عيارات المياه». عبارات لم تكن تؤدّي مهمتها بالشكل المطلوب. وبدلاً من أن توصل المياه إلى البيوت، كانت ترشّها على الأولاد بسبب «عطل فني طارئ». قد يكون هؤلاء الاطفال على شكل صديقك «بوتشي». المهم وقفت صديقتي لتصويرهم. وعقب انتهائها من مهمتها، سألوها: من أي وكالة؟ (لاحظ سألوا من أي وكالة إعلامية مش من أي جريدة) وحضرتك أجنبية؟ (شايف كيف متعوّدين على الأجانب). وتساقطت الأسئلة فوق رأسها. إلا طفلاً واحداً بقي مكانه ولم يقترب. منظره كان غريباً. هادئاً. سألته لماذا لم تتصوّر مع أصدقائك؟ فأجابني ببراءة طفل «حربوق»: «بكرا بتنشروا الصور وبتقولوا هادول ولاد المخيّمات المحرومين من الميّ وبتصيروا تشحدوا علينا».
برج البراجنة ـ قاسم س. قاسم