تعز| يُطلق عليها اسم «الحالمة» و«المدينة». عندما يقول المسافر أنا ذاهب إلى «الحالمة» أو إلى «المدينة»، فيعرف المستمع أن المتحدث يقصد أن سفره سيكون إلى تَعِز. ولا يزال هذان اللقبان معلقين على عنق المدينة، على الرغم من تحولها، بعد ثورة الشباب اليمنية، إلى نقطة لتصدير ثورتها الخاصة. يُعرف سكانها بهدوء الطباع والميل إلى التسامح والمدنية، إلى درجة ساعدت في إنتاج مقولات ناقدة عنهم، وخصوصاً في الجبهة القبلية من اليمن. عندما تحدث مشكلة بين شخصين تتطلب اللجوء للقضاء يقول أحدهم «لست من تعز كي ألجأ إلى القضاء»، حيث الصورة العامة المأخوذة عن مواطني مدينة تعز، أنهم فئة لا تلجأ للقوة الشخصية وسيلةً لاستعادة حقوقها المسلوبة.
لا يمكن أن يُنتج مثل هذا الكلام إلا في وسط بيئة ملوّثة ملغومة ومعايير مختلة تعمل على التقليل من قيم المدنية والسلم، وقد لاقت مثل هذه الظواهر في فترة حكم الرئيس علي عبد الله صالح بيئة مساعدة لتكاثرها وتعميمها لتصبح نموذجاً مثاليّاً، بمعايير اللحظة ينبغي للجميع السير على خطوطها العريضة.
وتمتاز مدينة تعز بكثرة تعدادها السكاني، الذي يتجاوز ثلاثة ملايين نسمة في المحافظة وحدها، من غير حساب التعزيين المنتشرين في المدن الأخرى، فيقال «لو تثاءبت تعز لجاعت اليمن»، في إشارة إلى الوجود الكثيف للتعزيين في كل نواحي الحياة اليمنية، من الدرجات الوظيفية الدنيا إلى السلك الدبلوماسي والأكاديمي والمهني. لهذا كان التركيز الرسمي على المدينة كبيراً، والعمل على تفكيك قوى أبنائها جارياً على قدم وساق. إشاعة روح الفوضى والاتكالية بين أوساط شبابها، وذلك عن طريق دعم مجموعات محدّدة منهم بالمال والمناصب المعتمدة على نفوذ حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم. ظهور علامات البذخ والرفاهية على هذه المجموعات يثير الضغينة بين فئات شبابية أخرى قرّرت عدم الاتكال على الصعود الحزبي السهل والمريب. من هنا تتكّون الشقاقات والتصدعات بين شباب المدينة الواحدة. بين هاتين المجموعتين تقف مجموعة ثالثة لم تنل نصيبها من العلم والترقّي في السلّم الجامعي. لم تجد وسيلة لكسب قوتها وحياتها غير العمل سائقي دراجات نارية في هذه المدينة الجبلية.
مع الوقت ظهرت حاجة أجهزة الأمن إلى توظيف هذه الفئة للعمل لصالحها لأسباب كثيرة، أهمها سهولة تجميع سائقي هذه الدراجات وقت الحاجة إليهم، واستخدامهم مرشدين دائمين وعيوناً على ناشطين حقوقيّين وسياسيّين.
ومن أجل تحقيق هذا الأمر كان لا بد من إغراء هؤلاء الشباب بوسائل تجعلهم يقبلون العمل مع تلك الجهات الأمنية. ومن أولى تلك الوسائل تضييق سبل العيش أمامهم، وذلك بإصدار قرار يمنع العمل بالدراجات النارية وسط المدينة، وهو ما يعني عملياً قتل أي أمل لهم في الحياة هناك. كان يُعمل بهذا القرار من وقت لآخر، وبحسب مزاج القائمين على أمور مدينة تعز، ما يعني وضع أولئك الشباب في حالة توتر وقلق دائمة.
تزامن هذا مع تعمّد الأجهزة الأمنية السماح ببيع أدوية لا تباع في العادة إلا بأمر خاص من طبيب مختص مثل «الديازبام»، وغيرها من الحبوب التي يؤدي الإفراط في تناولها إلى الإدمان، وخصوصاً عند تعاطيها مع نبتة القات، وفيما يصعب الحصول عليها في مدينة كصنعاء، يمكن العثور عليها بسهولة في تعز. وقد كان هذا جزءاً من إدراج هذه الفئة من الشباب في خانة الاستهداف، حيث الإدمان وسيلة رائجة لإيقاع الشباب في دائرة التدجين والتوظيف.
هناك من سقط في هذه الدائرة وهناك من أبى. لكن في المحصلة ظهرت فئة الشباب العاملين على الدراجات النارية بوصفها مجموعة سيئة السمعة في المدينة، ونجحت في حمل صفة «البلاطجة»، قبل أن تظهر هذه الصفة لاحقاً رسمياً مع بداية ثورة الشباب اليمنية، وبالتحديد صفةً للأشخاص الذين استخدمتهم السلطة للصدام مع الشباب الثائر.
لكن ما حدث كان لافتاً، إذ فاجأ سائقو الدراجات الجميع عندما نزلوا إلى الساحة، التي أُطلق عليها لاحقاً اسم «ساحة الحرية»، وأعلنوا قيام حركة 11 فبراير لإسقاط النظام. يقول الصحافي فكري قاسم، الذي كان متابعاً لنزول هذه الحركة إلى الشارع في المساء الذي سقط فيه الرئيس المصري حسني مبارك: «لقد كان هؤلاء من أوائل من نزلوا الى الساحة من دون غطاء حزبي وبروح مستقلّة تماماً، أعلنوا دعوتهم إلى إسقاط الرئيس صالح». ويضيف أن هؤلاء الشباب هم من يتعرض الآن لتهم التخوين والإلغاء بعد سيطرة القوى الحزبية على الساحة. «هم مجموعة من الشباب الذين لا يجيدون الخطابة، ولهذا تركوا المنصة لشباب أحزاب اللقاء المشترك».
لكنهم يجيدون شيئاً آخر: حماية المعتصمين واستخدام دراجاتهم النارية في نقل المصابين والقتلى خلال أي هجوم لقوات الأمن على شباب الساحة. لكن مع كل هذا بقي هؤلاء السائقون تحت دائرة الشك، ولا تزال صفة «البلطجة» ملتصقة بهم. يواجهون التهم من الطرفين، طرف السلطة وطرف المعتصمين. أولئك يتهمونهم بأنهم من كانوا سبب محاولات اقتحام مبنى المحافظة، التي لم تتأكد من طرف محايد، وادعت السلطة أنها كانت السبب الذي دفع رجال الأمن إلى إطلاق النار على المتظاهرين، فيما قال ناطق باسم أحزاب اللقاء المشترك في الساحة، إن الذين خرجوا من الساحة كانوا من شباب الدراجات النارية ولا علاقة لهم بشباب الساحة. واختلفت الرواية عند الشاب أكرم عبد الله عبد الصمد، وهو من شباب «حركة11 فبراير»، إذ أكد أنهم لم يقتربوا قط من مبنى المحافظة: «لكن خروجنا من الساحة أزعج أحزاب اللقاء المشترك التي ترغب في أن يبقى الشباب داخل الساحة بدون أي أعمال تصعيدية مهما كانت سلمية». ويؤكد هذا الكلام ما ورد على لسان الشاب هارون العاطفي، الذي قال لـ«الأخبار» إنهم في الساحة يعرفونهم تماماً ويعرفون الجهد الذين يقومون به، لكن «هناك رغبة في أن نلتزم بما يقولونه وهم على استعداد لصرف مبالغ مالية أسوة بما يُصرف لباقي الشباب العاملين في اللجان الأمنية، لكن شرطهم الوحيد أن نلتزم بالشروط التي سيملونها علينا، وعدم الخروج عن التعليمات التي تُعطى لنا».
لكن لا نوايا ولا رغبة حقيقية في أن تخرج هذه الحركة عن إطارها المستقلّ والسلمي، وبالتالي لا يبدو أنهم قابلون للتدجين في إطار أي منظومة حزبية مهما كانت. يقول أحمد السلطان الذي يشرف على 300 شخص من اللجنة الأمنية «إنهم يصرّون على حرماننا من مستحقاتنا المالية ونضطر أحياناً إلى الدفع من جيوبنا الخاصة للصرف على المصابين كما حدث يوم الأحد»، مؤكداً أنهم لا ينوون السير بعيداً عن طريق الاستقلالية الذي اختاروه لأنفسهم منذ أول يوم لنزولهم إلى الشارع.



تُهمٌ من كلّ الجهات

تبدو ظروف هذه الحركة صعبة للغاية في «ساحة الحرية» وهي تتعرض للاتهام من كل الجهات، رغم كونها الفريق الذي نزل قبل الجميع إلى الساحة «لكنها جماعة لا تجيد التعامل مع المايكروفون»، بحسب وصف الصحافي فكري قاسم، ولا تجيد التعبير عن نفسها جيداً، بما يمكّنها من الدفاع عن نفسها. هم مجرّد شباب رفضوا التعامل والعمل مع الأجهزة الأمنية وقرّروا النزول إلى الشارع لإسقاط نظام علي عبد الله صالح (الصورة)، غير مشغولين بالصورة السيئة المأخوذة عنهم، متغاضين في الوقت نفسه عن كل الأذى النفسي الذي يلحق بهم من الأطراف الحزبية الموجودة على الساحة. كل ما يشغلهم الآن هو تحقيق النصر لثورتهم هذه ليعودوا بعدها إلى العمل على دراجاتهم النارية، لكن بعد أن يضمنوا لأنفسهم أن لا أحد سيضايقهم بقرارات منع العمل مجدداً.