لن تنجح خطط الإصلاح ولا مبادرات الحلول بسبب اعتقالها. فهي الآمر الناهي، وهي حجر الزاوية لبناء الدولة. إذا غابت أو ضعفت أصبح كلّ شيء مهدّداً بالانهيار.
بسبب توقيفها، لن يصدّق ذوو السجناء كلام المسؤولين عن تحسين أوضاع أحبائهم الإنسانية والحقوقية خلف القضبان، ولن يعطوا الدولة فرصة لمعالجة مشاكل السجون.
وبسبب غيابها، ارتفعت وتيرة غضب السجناء، وتصاعدت أعمدة الدخان الأسود، وسالت الدماء لتختلط بالنار والحديد.
بسبب الحكم عليها بالسجن المؤبّد، فشلت المفاوضات مع المتمردين والتهمت النيران أرجاء السجن والمطبخ والمركز الطبي وقاعة المسرح.
وبسبب غيابها، يمكن وزيري الداخلية والعدل والمدّعي العام والمدير والقائد أن يقدّموا ألف وعد ووعداً، ولن يتغيّر شيء على الإطلاق، بل قد ترتفع حدّة الاحتقان ويعود الشغب.
بسبب تكبيلها بالأصفاد وإخفاء معالمها عبر رميها في زنزانة انفرادية مظلمة، تنهار مكانة ما بقي من الدولة، وتنتشر الفوضى ويسود الغشّ والفساد. ويبحث الناس عن دولة أخرى أو عن «دولة» توفر لهم العيش الكريم ضمن الدولة.
وبسبب غيابها تقلق الأمهات على أبنائهن، ويسود التوتّر ويزداد احمرار عيون المتمرّدين المستنفرة، ويُخشى من الخديعة والكذب والنفاق.
هي أساس النظام، والسبيل إلى العدالة وركيزة الجمهورية.
هي الثقة.
الثقة بين الناس والدولة، وبين المسؤولين في الدولة. الثقة بين مقدّم الخدمة ومتلقيها.
الثقة بين الشرطة والمواطن، وبين القاضي والمحكوم، وبين المحامي وموكله، وبين آمر السجن والسجناء.
غيابها أطاح كلّ شيء. فلا مكان للنقاش ولا مجال للتفاوض ولا سبيل لحلّ المشاكل.
وعود خلف الوعود خلف الوعود... ويعود كلّ مسؤول إلى طائفته أو إلى تياره أو حزبه أو منطقته يحتمي بها ليتهرّب من المسؤولية.
ثقة فقدها اللبنانيون بعضهم ببعض وبدولتهم وبجميع السياسيين فيها منذ عشرات السنين. ففشل الإصلاح وماتت المبادرات الإيجابية وتفاقم خراب البلاد.
ثقة يصعب الأمل باسترجاعها بعد تعدّد الخيبات. لكن لا بدّ أن تنطلق ورشة الإصلاح بالسعي إلى استعادتها. ولا بدّ أن يتوضح للجميع أن دولة يتآكل جسدها الفساد لا تستحقّ الثقة. فمتى تبدأ عملية التطهير؟
1 تعليق
التعليقات
-
الثقة والثقافةطبعا الثقة مطلوبة د. عُمر، لكني أعتقد يا أستاذي الفاضل اننا بحاجة أيضا الى ثقافة الخدمة الإجتماعيةSocial service، على المستوى الفردي والجماعي، وعلى مستوى مختلف درجات سلم ممارسة الوظيفة الرسمية والخدمة العامة في لبنان. فاعتقد ان ما اوصل الأمور الى ما وصلت اليه هو الإنحراف -غالباً- عن العمل من اجل الصالح العام والسقوط في آفة المصالح الفئوية والخاصة. وما يساهم في هذا الإنحراف، غياب ثقافة المحاسبة، وثقافة الإنتخاب(كيف ننتخب؟ من ننتخب)، وثقافة المواطنة وثقافة الحوكمة، وثقافة العقاب(لماذا نعاقب؟كيف نعاقب؟)، وثقافة الأمن(كيف نبدد الخوف من شريكنا الآخر في الوطن)، وثقافة المرور(كيف نقود آلية على الطريق)، ثقافة البناء(كيف نبني دولتنا)، ثقافة الاستراتيجيا(أي دولة نريد)،إلخ.... فعندما يكون الجرح عميقاً يا سيدي ، "التطهير" وحده لا يكفي للشفاء لأنه يعالج من الخارج فقط، فتجد الأطباء يعالجون الجرح من الداخل أيضاً (Antibiotic مثلا)، كما انه سبق لنا وجربنا التطهير مراراً ولم نصل الى نتيجة بل تفاقمت الأمور أكثر فأكثر. ذات مرة، أنْهَت جارتي البلجيكية حديثنا الطويل عن الحالة اللبنانية بهذه الجملة: Les libanises ne sont pas adults. أعتقد أنه علينا إصلاح أنفسنا، فـ "كما تكونون يولّى عليكم". مع تمناياتي لك بالتوفيق د. عُمر نشابة.