يبدو الشاعر العراقي هنا كأنّه تخلّى عن الأسلوب الذي عُرف به طويلاً. نحن أمام قصيدة يومية عن واقع ملتبس يتحكم فيه الماضي وتتلاعب به الغرائز وشهوة الدم
سعد هادي
يقسّم خزعل الماجدي مجموعته الشعرية «فيلم طويل جداً» (منشورات بابل) التي بدأ كتابتها في التسعينيات وأكملها عام 2003، إلى قسمين: قبل العرض وبعده. ما يريده هو تأليف سيناريو وثائقي بطريقة شعرية منذ دخول الإنكليز إلى العراق عام 1917 حتى ظهور التصدّعات الكارثية التي انتهت بالحروب والدمار والخراب. الفيلم ــــ على حدّ تعبيره ــــ بدأ مجدداً داخل صالة العرض بين المتفرجين بعدما نزل الأبطال إلى الصالة. أمّا شعرياً، فالفيلم يبدو كملحمة قصيرة مستمدّة من تراث المناحات العراقية وركام قصائد الرثاء والأناشيد السود التي يرددها العراقيون في مواسم البكاء الطويلة. المقطع الأول في المجموعة يبدأ: «لا ينفع هذا العصر سوى البكاء/ البكاء على ما جرى وما سيجري/ لا ينفع هذا العصر سوى المراثي». بينما تتردد صور الموت والخراب مقترنةً باقتباس هنا أو إشارة إلى واقعة تاريخية هناك أو ملاحظة ملغزة عن حدث ما. وبين المتن وهامشه، تتأرجح صور شعرية منفذة بلا عناية لغوية، تهبط إلى النثرية الفجة أحياناً: «لماذا لا تصافحني يا وطني/ يدك مجروحة أم يدي؟/ أعطيتك حياتي كلها... وكتبت لك كتباً وقصائد/ فماذا قدمت لي سوى الخراب والدمار والموت والمنفى؟». يبدو الشاعر هنا كأنّه تخلّى عن نهجه الشعري الذي عُرف به لسنوات طويلة وحاول عبره استنطاق اللامرئيات والبحث في جذور الأساطير ومظاهر السحر والطقوس الدينية والرقى والاستعارة من التاريخ. كانت قصيدة الماجدي النموذجية غنائيةً تحتفل باللذة والجمال، وتستغرق في رموز وطلاسم يمكن حل مغاليقها حيناً ويمكن تجاوز ذلك أحياناً اعتماداً على ما تتركه من إيحاءات. كانت تلك القصيدة مع تعدّد أشكالها وجرأتها تنسجم مع النمط الشعري العراقي الذي شاع بعد الثمانينيات وكان يحاول بمفارقة منطقية ألا يصطدم بمجريات الواقع وأن يتخطاها شعرياً إلى مستوى خيالي يعيد الاتزان إلى ذات الشاعر بالقدر نفسه الذي يسوِّغ انفصاله عن المحيط الخارجي. كان الواقع يزداد بؤساً وقتامةً بينما الشعر يزداد رمزية وغموضاً ويذهب بعيداً في جمالياته وتجاربه الذهنية المتطرفة. وبالطبع كان لا بد لهذه التجارب من أساس نظري يبررها وسط تناقضات الواقع. وكان خزعل الماجدي بين مَن فعلوا ذلك بجدارة. كانت تنظيراته المتتالية على اختلاف صياغاتها ومرجعياتها تضعه دائماً في صدارة المشهد الشعري العراقي ولعله ما زال كذلك. أما تطبيقاته الشعرية المسرفة في شكلانيتها وبالذات في سياق قصيدة النثر ـــــ وهي النمط الكتابي الذي ظلت نماذجه شبه ممنوعة حتى العقد التسعيني ـــــ فجعلته على رأس تيار ثقافي ظل في تضاد مع فجاجة الثقافة الشمولية وأساليبها الدعائية. لنتذكر هنا أنّ ما توصل إليه الشاعر يتناقض مع بدايات مشروعه أو ما سُمِّي بـ«القصيدة اليومية» الذي أوضحه في بيان نشره عام 1974 مع آخرين. وكان ذلك المشروع يدعو إلى كتابة قصيدة تستمد عناصرها من تحولات الواقع وسماته الجديدة، فهل تكون التجربة الراهنة للشاعر نكوصاً إلى ماضيه؟ أم هي استعادة لعنوان كبير من ذلك الماضي؟ أم أنّ التجربة تكمن في وضع العنوان إطاراً لمرحلة شعرية معقّدة حافلة بالتناقضات وموغلة بالألم؟ قصيدة الماجدي الجديدة قصيدة يومية عن واقع ملتبس يتحكم فيه الماضي وتتلاعب بغرائزه شهوة الدم. وفي واقع كهذا، يتجلّى الموت لا كمفهوم ما ورائي بل كحقيقة تتكرر كل لحظة. لذا، على الشاعر ألا ينتظر جمالياته وألاعيبه واحتيالاته اللغوية طويلاً. عليه أن يعيد تصوير ما يراه ويكتب قصيدته بأكثر المفردات فجاجة: «القتلة المتعطشون للموت يحملون الهراوات/ والسيوف والسكاكين والمسدسات والرشاشات/ ويصرخون في الأضرحة والأسواق والمستشفيات/ يرفضون كل شيء حتى أنفسهم/ هل أبكيك يا عراق؟».
ذلك اليأس القاتل يتكرر في كل الكتاب، تتكرر صور الموت وتتلاحق طيوره السود مثلما تتردد مناحات المخلوقات التي انبعثت من قبورها لتتحكم في لعبة الحاضر. يصرخ الشاعر (فقد ابنه في عملية إرهابية) بعدما يصف جحافل الغزاة كأفعى سوداء رأسها في النجف وذيلها في الكويت: «لم نرَ الموت في صالة سينما، لم نره على شاشة بيضاء/ لم يكن فيلماً ملوناً بل عانقناه طويلاً/ وأحبّنا، لم يجد شعباً وفياً له سوانا»، مفصحاً عن نبوءته بأنّ النهاية ليست قريبة شئنا أم أبينا.