دخل الشاب إلى سجن رومية. ترك طفلة تحبو وولداً يتدرب على لفظة «بابا». كان سامر (اسم مستعار) يعتقد أنه لا يحتاج إلا إلى عملية بسيطة ليسابق الرياح ويناطح السحاب. تحيّن «فرصته»؛ كل ما طُلب منه كان «توصيلة» مخدرات. لكنّها لم توصله، كما حسب، إلى «أبواب الترف»، بل إلى «أبواب رومية». تشهد جدران ذاك السجن على حكايات مُثيرة؛ لم يصنعها ساكنوه فقط، أصحاب السوابق، بل إهمال وتواطؤ حرّاسه أيضاً. يروي السجين (قبع في «رومية» ما بين عامي 2005 ــ 2008) قصته مع المبنى، المؤلف من 3 طبقات تتضمن 58 غرفة، مساحة كل منها نحو 9 أمتار مكعبة تتسع لـ 8 أو 10 أشخاص؛ لكن توزيع المساجين على الغرف لا يتم حسب مساحتها، بل اعتباطياً وحسب «الواسطة». يتحدث سامر عن غرف لا تتسع إلا لشخص فيضعون فيها 6. وثمة غرف تتسع لـ 9 أشخاص يضعون فيها اثنين أو ثلاثة.
لكل طابق شاويشه، وكما هي حال «تركيبة البلد»، يُعتمد التوزيع «بالعدل» بين الطوائف؛ فيكون للطابق الأول شاويش، وهو سجين، سنّي مثلاً ونائبه من طائفة ثانية، وللطابق الثاني شاويش ماروني ونائب شيعي، وللثالث شاويش شيعي ونائب درزي. في المبدأ يجري تبديل الشاويش كل شهر، لكن إن عرف الشاويش «كيف يدبّر أموره» يمكن أن يبقى سنة في «منصبه» وأحياناً سنتين. «تدبير الأمور» يُقصد به تولي نشاطات «هامة»، كبيع حبوب دواء الأعصاب، التي يحصل عليها «الشاويش» من الخارج. يقول سامر إن السجن يؤمّن دواء الأعصاب (بينزيكسول الذي يسبب الهلوسة) لـ 20 في المئة (من الذين يتناولونه) بموجب وصفة طبيب، أما الباقون فيحصلون عليه من الخارج عبر «وسيط» يبيعه في الداخل ويتخذ منه باب رزق للتجارة. تُباع الحبة بسعر أغلى بكثير من سعرها في السوق الخارجي. وإن لم يتوفر المال يستعين «التجار» بالأساليب القديمة، كالمقايضة، فتباع الحبة بعلبة دخان. هناك أنواع أخرى من الأدوية التي تُباع أيضاً مثل «ريفودين»، يقايضها السجين بعلبة سجائر كي يحصل على قسط من النوم!
مسألة أخرى تشغل رومية، «الأرانب»، وهم شبان يكونون مصدر إعجاب و«رغبة» من بعض المساجين، ليس أي مساجين، وإنما «البوطة»، هؤلاء «الزعران»، كما يصفهم سجيننا السابق، يفرضون وجودهم من خلال قوّتهم الجسدية، وعادةً يتولون «النشاطات المهمة» في السجن، كبيع الحبوب «وشراء عناصر الأمن» وغيرها من الأمور «الخارجة عن القانون».
يدخل «الأرانب» إلى السجن، فتبدأ «البوطة» (وخاصة تلك التي صدرت في حق أعضائها أحكام طويلة) باستدراجها، أولاً بالكلام اللطيف، وإن لم ينفع فبوضع حبوب الهلوسة، ثم «الافتعال» بهم. البعض يستطيع أن يخلص نفسه، فيبلّغ عناصر الأمن (الدرك) الذين يفصلونه عن «روّاده». عندها قد يسعى عناصر «البوطة» إلى الانتقام منه عبر مضايقته، إلى أن يرحل إلى مبنى آخر. وكل «بوطة» يحتكر امتلاك الأدوات الحادة مثل الشفرة وغيرها. أما إذا لم يكن «أرنباً» ولديه المال فيتسلطون عليه ويسلبونه.
بعض المساجين المحكومين فترة طويلة، يعملون أحياناً في «الدعارة» داخل السجن، فيلبون رغبات من «لم تعد النساء تعني لهم شيئاً»، يقدّمون أجسادهم لإشباع نزواتهم ونزوات الآخرين مقابل المال أو ما «يقيم بالمال» كالسجائر والمأكولات وحبوب الأعصاب وغيرها، وأحياناً من «أجل الرغبة فقط».
عن دور عناصر الأمن، يقول سامر إن «الدرك يغطون ما يحصل مقابل المال، وهم يمثّلون نسبة عالية، وقد عوقب الكثير منهم، بسبب تهريب مواد كالهواتف والكاميرات وحبوب الهلوسة».
أما السخرة، ذاك «المفهوم القديم»، فقد أضاف عليها سجن رومية صفتين: الرغبة والسعي. فيسعى البعض وراء العمل بالسخرة من أجل تمرير الوقت، في المطبخ أو الصيانة أو التنظيفات والإدارة. وأحياناً يضطر الى استحضار «واسطة» من أجل الحصول على ذلك العمل الذي يقدّمه من دون مقابل مادي أو معنوي. العمل الإداري يعني تولي معاملات المساجين، أسمائهم، أرقام غرفهم والطوابق الموجودين بها. درايتهم بهذه الأمور تكون أشدّ من المسؤولين من عناصر الأمن أنفسهم، إذ إنهم يلجأون إلى السجين الإداري للحصول على المعلومات عن المساجين بطريقة أسرع. بعض السجناء يعملون كخدم، لأنهم لا يملكون المال، فيعملون مقابل السجائر والطعام.
داخل «رومية» نشاطات أخرى كلعب القمار ـــــ ليس بالضرورة على المال ـــــ وهناك نراجيل «ورفقة أمنية مسلّية» لمن له واسطة.
يتحدث السجين عن أهمية التواصل مع عائلته والمجتمع الخارجي الذي يمكن أن يخفف الكثير من المشاكل والمعاناة. خرج الشاب، فوجد طفلة تناديه «بابا» وولداً يكتب اسمه، ومنزلاً ذهب مع الريح.