أنسي الحاج
لطفاً
كنتُ أحسب النّزعة الفرديّة والانفراديّة تميّزاً أرستقراطيّاً إلى أن طالعتُ معالجة صحافية ـــــ علمية لقضية لعلّها تُطرح للمرة الأولى على هذا النحو: اللطف. فقد جمعت مجلة «كورييه انترناسيونال» في عددها لـ5/11 شباط الماضي مقالات في هذا الموضوع سبق نشرها في الصحيفتين البريطانيتين «الغارديان» و«الاندبندنت» والصحيفة الإسبانية «البايس»، لافتة إلى كون هذا الاهتمام يحصل في بيئتين من أكثر المجتمعات الأوروبيّة تأثّراً بالأزمة الاقتصادية الراهنة. وتشير «الكورييه» في هذا السياق إلى كتابين ظهرا حديثاً: «فنّ ممارسة الطيبة: تجرأْ وكُن لطيفاً» للطبيب الأسوجي استيفان إينهورن (سرعان ما أصبح الكتاب بست سيللر ونال جائزة أصحاب المكتبات للعام 2005) و«فن اللطف»، وهو للفيلسوف وعالم النفس الإيطالي بيارو فرّوتشي، قدّم له الدالاي لاما، ومن المفترض أن تكون ترجمته الفرنسية قد ظهرت في منشورات «بوكيت». يتبدّى من صفحات المجلة أن الأزمة الحديثة كلها، لا العصر الحالي وحده، ممعنة في مزاج الأنانية المستهترة بحاجات الآخر، ولا سيما الآخر المفتقد دفء الحدب والتعاطف.
يمكن إيجاز إحدى المفارقات في مسألتي الانعزال والاختلاط بهذا القول للفيلسوف الألماني تيودور أدورنو: «الأكثر انتشاراً من ظاهرة التباعد بين الأشخاص إنما هي الرغبة في كسْر هذا التباعد»، مشيراً إلى أنه إذا كانت العزلة تمنحنا الشعور بالطمأنينة فإنها في الوقت نفسه تجعلنا تعساء، كأنها ضريبة حتميّة لحماية الذات. وحكاية الحياة تُظهر كيف يتأرجح المرء، من بداية الروح إلى نهايتها، بين هَرَبٍ ومواجهة، وانغلاق وانفتاح، وخوف من الحب وخوف عليه، مع طغيان التيّار النفعي على المجتمعات (الغربيّة خصوصاً) واختلاط مفاهيمه بالقيم الفرديّة على حساب معاني الغَيريّة والتضحية.
جرّب أن تحاضر في قوم عن الطيبة، لا بد أن ينبري أحدهم أو معظمهم للتنديد بالغباء، وإنْ لطّفها، فبالسذاجة. أنت تقول طيبة وهم يفهمون بلاهة. هبْ أننا لا ننفي عن بعض أجناس الطيبة صفات البساطة التي قد تبلغ الغباء، فهل يمحو ذلك جمال الطيبة؟ أيجب أن تكون على خلفية ذكاء أو دهاء حتّى تغدو لها قيمة؟ ألا يُنْحَنى للخير إلا إذا كان محتاطاً بالشرّ؟ وهل كانت الأرض لتكون محتملة، بوعورتها وغيلانها، لولا الذين يأخذون بيدنا؟ أحياناً نعتقد بلاوعينا أن حنان الأمّ أمر واقع ولا قدرة لها على وَقْفه. ماذا كنّا نفعل لو أوتينا أمّهات ناشفات العاطفة أنانيّات يقدّمن أنوثتهنّ أو طموحهنّ على أولادهنّ؟ إننا نحتقر ما نظنّه ضعفاً أو غريزة. وهبْ أنه ضعف أو غريزة فهل يقلّل ذلك من فائدته أو عظمته وهل يُخفّف من حاجتنا إليه؟
يلاحظ الأجنبي أن الآسيويين يُبلّغون أسوأ الأخبار مع ابتسامة. لا نعرف إذا كان المسيح سخيّ البسمات لكنّ المعروف أن إحدى دعامات دعوته، وقد غيّرت العالم، هي المحبّة. وها هو عالمنا المتهكّم، العدمي، المتعبّد للمأرب والقوّة، يعود إلى اكتشاف هذه الكلمة التي بعثت أحياناً على التثاؤب ولكنّها لم تصل إلى غايتها بعد، وإن كانت الاستثناءات وما زالت كثيرة، ومعظمها بين الطبقات الأقل ظهوراً، وفي مطاوي الغفلة والوداعة.
كلامٌ قد لا يروق رجلاً كنيتشه، وقد لا يستهوي أيضاً جابي الكهرباء. فالقوي يحتقر اللطف لأنه قوي والضعيف يحتقره لأنه ضعيف. مع ذلك يمكن الافتراض أنه لو أتيحت لنيتشه إحاطة المحبّة القويّة لربّما كانت قد جعلت حياته الشخصية غير حياة.
لمَن، إذاً، يبقى اللطف؟
لعلّه للطفل، في تعطّشه إلى المجهول، وللعجوز، في نسيان الحياة له، ولمَن تكسر الصاعقةُ غرور صباه، فتضطره الوحشة إلى مَدّ يد القلب...

بسّام حجّار
تَحْضر، في غياب الشاعر العزيز بسّام حجّار، صورة الطّيف، ويتردّد صدى الماحي نفسه، المبحوح، مبحوح الروح منْ حرصٍ وجرح، من جَوّانيّة تحفر ذاتها، وإنْ رَفَعَ الصوت فكأنْ سهواً، مثل تدافع فقاعات الصمت.
بين عتمةٍ وضوء أقام الصوت الخافت، ومرّ مرور الكرام الحقيقيّين، الجوهريّين، الرهبان.
وغداً، بعد أن تختفي أصوات كثيرة وينحسر الموج، سيماط اللثام عن جواهر قليلة في قعر الجرّة المقدّسة. وسيكون بسام حجّار إحدى هذه الجواهر.

استغاثة
تنحرف الخليقة عن الخالق. يحتفظ بكلمة سرّها وهي لا تكترث. تنحرف لانجرافها مع التجربة. التجربة هي غليان الصبا. الخالق يعرف ذلك بالسليقة وينساه حين تأخذه سورة الخلق. يندم بعد انحراف الخليقة، لكنّه مع هذا يشعر بالتحدي، وبفخر التحدي المنقوع بالكآبة.
ينحرف المصنوع عن الصانع لأن للصانع نداءً وللمصنوع نداء. الأوّل يجاوب الهيولى والآخرُ الوجود. العدم والحركة. الاختراق والاكتشاف. وحين مدّ الخالق يده إلى آدم ظنَّ آدم أنّها يدٌ لإنقاذه، ولعلّها كانت يد اللّه تستنجد يد الإنسان أنْ لا تتركها...

اعترافاً بملاحظة
بعد ندوة تلفزيونيّة عُقدت معي قبل سنين، نشر أحد الشعراء مقالاً قال فيه إنّي كنتُ جالساً كالصَّنَم أستمع إلى التقريظ. لم يكن تقريظاً فقط بل ثمرة جهد قام به الأصدقاء الذين تفضّلوا عليّ بمشاركتهم. وكانت الندوة إحدى ندوتين تلفزيونيتين (كلتاهما باستضافة السيدة جيزيل خوري) ظهرتُ فيهما خلال الثلاثين سنة الماضية، لا خجلاً وغروراً وذعراً من الكاميرا فحسب، بل استدفاءً بالاختباء. أمّا الصّنَميّة فصحيح. كنتُ لارتباكي ولخوفي من النقد ومن هجوم قد يُشَنُّ عليّ على الهواء مباشرة فيحطّمني، وكذلك لانغماري بمحبّة الأصدقاء والصديقات وشعوري بالامتنان حيالهم، لا أجرؤ أن أتحرّك. بالإضافة، كنتُ أجتاز مرحلة غارقة في الهواجس.
لا يمنع أن الأستاذ الشاعر الذي تضايق من صَنَميَّتي كان محقّاً. جمودي كان لا يُطاق. في الشكل خصوصاً، فالمحتوى كان يَخْفق مثل قلب عصفور.
لا أعرف لمَ تذكّرتُ هذا التفصيل. لعلّه، تأثراً بظروف أخيرة، في سياق التلميح إلى واجب قول ما لنا وما علينا وأن لا نتصرّف بالحقائق بمنشار الهوى ولا بمُثْليّة النرجسيّة ولا بُعنَّةِ الفكر أو عهارة النيّة.
وصراحةً لا أعرف تماماً لماذا بدأتُ بذلك المطلع وأنهيتُ بهذا الختام.

قهقهة
الهاوية فيه، ويخاف أن يستكين. فالهاوية هي فيه، وإن استكان نَظَر، وإذا نَظَرَ هوى.
ممسوكٌ إلى الفجوة الفاغرة جوعها، أعلى وأعمق وأبعد وأقرب... ألا ترتوي الفجوة؟ ألا تغمض الهاوية عينيها؟ ألا يرتاح صعود الجلجلة؟
لا.
وهكذا اخترع المقهور العنيد، الجريح المُعنّى، دربَ الصعود، وما هو غير مصلوب بين مصلوبين يكابر ويفتعل القهقهة، كما يفعل فاشلو السينما، بضحكة تصدر من سطح زلاعيمهم، جعجعة يحاول بها صاحبها تمويه السكون الفاضح ريثما يتشجّع على اجتياز الليل.

■ بعض التقليد
ليس في النسخة المقلَّدة ما يشفع لها أو يضعها في خطّ المقارنة بالأصل، إلا عنصر واحد: بعض التقليد يتخلّص من حشو يعانيه الأصل ويتجنّب مواضع الإملال بعدما عاناها كقارئ. هكذا يتفوّق المقلّدون على أساتذتهم.


امرأة، رجل
ما يحنّ هو القلب لا الوتر. الوتر عضو في هيئة المحلفين، حيادي كغيمٍ بلا مطر.
الرجل قلب المرأة لا رأسها كما يشاع. لذلك يُسْتضعف بها. الأصلب من حديد، الأشدّ من صخر، الأسرح من غزال، أضعفُ من لفظة، بإشاعة يَنْزل وبهمسة يصعد. الرجل يتظاهر بالرشد ليغطّي وَلْدَنةً تُطيحه إن استسلم لها وتخنقه إنْ كتمها. الرجلُ مناخُ بلدهِ والمرأة مناخ الديمومة. الوَلَد مناخٌ مؤجّل. الرجل إنسان النار والمرأة إنسان الماء. الهواء، التراب. أداة الرجل الكلمة وأداة المرأة المسافة.
ما يقسو هو القلب لا الوتر. الوتر بريء حتى البكاء، حيادي كغيمٍ بلا مطر.
الفرق بين المرأة والرجل هو الإنسان.


عابـــرات

كلّما تعتّقتْ طيبة القلب ازدادت مرارتُها على المراقب اللئيم.
■ ■ ■
القناعة الرضيّة لشهيد يُكلّمكَ بهدوء الموظف المتقاعد وابتسامة الحكيم الملحد.
■ ■ ■
ما يخيفكَ في الظلام ليس أنّكَ كالأعمى بل أنّ الظلامَ حيالكَ هو الأعمى.
■ ■ ■
انظرْ حيثما نظرتَ: خُفُوتُ الضوءِ، التواءُ الصوت، انحناءُ الظَّهْر... الشمسُ تغيب. الويل لمَن تتوقّف حياته على التوهّج حين لا يعود يتوهّج إلا الحريق.