كانت الطريق طويلة بين المدرسة والبيت في قريته النائية. مشى طويلاً، ليشق طريقه إلى دمشق، ويصبح وجهاً أساسياً في الحركة الثقافيّة السوريّة. نعرفه شاعراً ومبدعاً، صحافيّاً وناقداً، ومسكوناً بحب «الفنّ السابع» الذي خصص له سلسلة باتت مرجعيّة في المكتبة العربيّة

سعد هادي
تعلّم بندر عبد الحميد القراءة والكتابة على يد شقيقه، قبل دخوله المدرسة. كانت أقرب المدارس إلى قريته تل صفوك القريبة من الحسكة، تبعد حوالى عشرين كيلومتراً. حين ارتاد تلك المدرسة لاحقاً، كان عليه أن يمضي ثلاث ساعات يومياً على طريق الذهاب والعودة مع أقران له. لم يكن يعرف لماذا يبذل كل ذلك الجهد من أجل شيء يعرفه. في تلك السنوات، كانت عائلته تتنقّل في المنطقة المحاذية للحدود العراقية بين سهل سنجار في الربيع، وتل براك في الشتاء، لتسكن موقتاً في بيوت شَعر وترعى أغنامها. أمّا هو، فيُقبل في نصف العام الدراسي التالي في مدرسة العشائر الداخلية في الحسكة. يتذكر أنّ الدراسة كانت جادّة ونظام الطعام والإقامة ممتازاً. استمر ذلك حتى الخامس الابتدائي، حين حصل على المرتبة الأولى في الامتحانات، متفوّقاً على كل تلاميذ المحافظة. سألوه في مديرية التربية: هل تريد مكافأة أم رحلة إلى يوغوسلافيا؟ اختار الرحلة. وبعد انتظار طويل بين 1959 و1960 أخبروه بأنها أُلغيت، ولم يتسنَّ له زيارة يوغوسلافيا مطلقاً.
انتهى دور مدرسة العشائر عند ذلك الحد... استأجر غرفة مع إحدى العائلات، وانتسب إلى مدرسة اسمها «الغسانية». كانت المدرسة تضمّ مكتبةً ضخمة، حافلة بنوادر المطبوعات والكتب، فأصبح مسؤولاً عنها، مع زميل آخر له. كان أستاذ اللغة العربية شاعراً مُحدّثاً من حلب، اسمه ظهير كنيفاتي، ويدين له بندر عبد الحميد بالفضل لأنّه علّمه أنّ القراءة فعلٌ جاد قبل أي شيء آخر.
يتذكّر من تلك الأيام أنّه كان يبتكر في وحدته طبخات لا يمكن لأيّ طباخ شهير في العالم التفكير فيها، حتّى إنّ طبخاته كانت «تثير الخوف» لدى أصدقائه. لم يشتهر أحد من هؤلاء الأصدقاء الذين أولع بعضهم بالقراءة مثله. بقوا في الحسكة ثم اختفوا من المشهد على مراحل، بينما حصل بندر بعد تفوّقه في البكالوريا على منحة دراسية من وزارة التعليم، وانتقل للدراسة في جامعة دمشق. تنقّل بين غرف سكن عدّة، ولازمه شعورٌ بأنّ «الحياة أوسع هنا، رغم أن البلد كان مغلقاً، وبقي كذلك لبضعة عقود». كان الشعر قد بدأ قبل ذلك، إذ كانت قصائده الأولى كلاسيكية ـــــ وفازت إحداها بالجائزة الثانية في مسابقة أجرتها مجلة «العالم» التي كانت تصدر في بيروت ـــــ لكنّه لا يتذكّر اليوم بيتاً واحداً من «تلك القصيدة العمودية التي تشيد بالتطور العلمي».
في دمشق، بدأ الكتابة للصحافة أيضاً، ومن خلالها تعرّف إلى الكثير من المثقفين. كان أصدقاؤه دائماً أكبر منه، ربّما لأنّه اعتاد مجالسة الشيوخ وشرب القهوة معهم، منذ كان طفلاً. في عام 1973 تعرّف إلى زكريا تامر وأجرى معه حواراً صحافياً نشره في مجلة مغمورة، وظلّ «تامر يشيد بذلك الحوار ويعتبره أفضل حوار أجري معه». في العام التالي، نشر مجموعته الشعرية الأولى «كالغزالة... كصوت الماء والريح» التي انتقل فيها من الكلاسيكية إلى السريالية، من دون أن يمر بمرحلة وسطى. كتب قصائد تلك المجموعة في سجن «الشيخ حسن»، حيث سجن لبضعة أشهر بسبب «تهمة ملفّقة شبه سياسية». وبعد إطلاق سراحه، عاش مرحلة يصفها بـ«قمة الفوضى»، كما رسب بإرادته لسنتين في الكلية، لأنه أحبّ طالبة تصغره بصفّ وأراد أن ينتظرها لتلحق به.
في تلك السنوات، بدأت علاقته بالسينما. كان يشاهد الأفلام يومياً، ويقرأ ويكتب عن الفنّ السابع... وحين ذهب إلى هنغاريا عام 1979 لدراسة الصحافة، شاهد في نادي السينما في بودابست كل الأفلام الممنوعة في سوريا. عند عودته، كان قد اختير عضواً في مجلة «الحياة السينمائية» التي كانت مرجعاً مهماً للعاملين والباحثين والقرّاء، وما زالت تصدر حتى الآن رغم كل العقبات. هكذا أسّس سلسلة «الفن السابع»، ثمّ عمل أميناً لتحريرها، وهي تُعنى بنشر الكتب المتعلقة بالسينما، وأصدرت أكثر من 160 كتاباً حتى الآن. لا يعترف بندر عبد الحميد بانتمائه إلى أي اتجاه أدبي، فهو ضد التصنيفات عموماً... كما يرى أن التطور الثقافي كان بطيئاً بسبب العزلة، إذ كما يقول دوماً «نحن معزولون لأسباب تافهة».
لا يفصل الرجلُ بين شعره وحياته، فلا يسأل نفسه ماذا حقق شاعراً. إذ إنّ همّه في المقام الأول هو التوازن مع نفسه لا مع العالم، وقد حقّق ذلك لأنه «لا يفكر بقواعد مسبقة ولا نظريات ثابتة، يؤمن بحريته قبل كل شيء، بصناعته لتلك الحرية التي يتمنى أن ينالها الجميع». حاول التعبير من خلال الشعر عن تلك الحرية، على الرغم من أنّه لا يتذكر إلا القليل من قصائده، ربما «لأن تلك القصائد مرتبطة بحدث أو ذكرى ما». لم يعد ينشر شعراً، يكتب القصيدة ويضعها جانباً في انتظار أن تكتمل لديه مجموعة ذات مناخ واحد. المجموعة «برأيه» تعبّر عن الشاعر بطريقة أفضل، وهي سجلٌّ لمرحلة في حياته وفنه.
عام 1984 نشر روايته الوحيدة «الطاحونة السوداء»، بعد أن أمضى شهوراً في قرية عجيبة يحكمها المهرّبون والشرطة معاً على الحدود التركية، بين رأس العين والقامشلي. أتيح له هناك التعرّف إلى شخصيات نادرة ودخل في سلسلة من الأحداث الغريبة، فكتب الرواية من دون تفكير. تجربته الروائيّة تلك كانت «بنت وقتها»، حتى إنّه لم يعد قراءتها ثانية وليس لديه نسخة منها. كتب أيضاً سيناريوات لأفلام قصيرة، لكنّها نُفّذت بطريقة سيّئة، ولم يتسنّ له التدخّل في التنفيذ لأسباب مختلفة.
ما زال بندر يعشق التنويع في مصادر القراءة والكتابة، وهذا ما يدفعه دائماً في اتجاه الصحافة. في هذا المجال، ليست لديه موضوعات مسبقة، لكنّه يجتهد في اكتشافها، ويفكر أيضاً بمشاريع أدبية تحتاج إلى زمن لا يمكن توفيره، في ظلّ مشاغل الحياة اليومية. يتضاعف تشاؤمه باستمرار أمام الواقع الثقافي... ويعتقد أن «لا حلّ إلّا في التغيير الشامل، وليس في إصلاحات الترقيع». فالحياة الثقافية العربية «ليست متوقّفة... بل تتقهقر إلى الخلف، وبسرعة، ما يثبت أننا منعزلون تماماً، وبإرادتنا، عما يجري من تحوّلات في العالم».


5 تواريخ

1950
الولادة في قرية تل صفوك القريبة من الحسكة (الجزيرة السوريّة)

1974
مجموعته الشعرية الأولى «كالغزالة... كصوت الماء والريح» (اتحاد الكتاب العرب)

1975
تخرّج في قسم اللّغة العربية في جامعة دمشق

1984
أصدر روايته الوحيدة «الطاحونة السوداء»

2008
كتاب «مغامرة الفنّ الحديث» عن الفنّ في القرن العشرين