يسجّل برنار هنري ليفي يوميات الثورة الليبية، من موقعه شاهداً عياناً أولاً، في كتابه «الحرب دون أن نحبّها: يوميات كاتب في قلب الربيع الليبي» (دار بدايات ـــ دمشق، ترجمة سمر محمد سعد). لكن ما إن يمضي ليفي إلى الأمام قليلاً، في توضيح كواليس ومجريات الأحداث في الفترة بين 23 شباط (فبراير) و20 أيلول (سبتمبر) 2011 حتى يحضر هذا الكاتب الفرنسي المثير الريبة كصانع للحدث، ومحرّك لخيوطه المتشابكة، منذ أن قرّر الذهاب من «ميدان التحرير» القاهري إلى بنغازي، ليس بوصفه صحافياً ميدانياً، بل محرّضاً على الثورة ضد القذافي.
سيرفع سماعة الهاتف طالباً التحدّث مع الرئيس الفرنسي حينها نيكولا ساركوزي بقصد تشجيعه على التدخّل لإنقاذ مناوئي القذافي من القتل. مكالمة قصيرة بين «الفيلسوف» الصهيوني والرئيس، تنتهي بموافقة ساركوزي على فكرة الاعتراف بالمجلس الوطني الانتقالي ومقابلة أعضائه في باريس. بدءاً من هذه اللحظة، سيستعير ليفي (1946) صورة «لورنس العرب» مفجّر الثورة العربية الكبرى ضد العثمانيين في عشرينيات القرن المنصرم، وبالطبع أندريه مالرو الذي استعار منه عبارته المعروفة عنواناً لكتابه، وسيتناسى عمداً صورة الفارس الجوّال «دون كيخوته» في مغامراته المجنونة. ثلاث شخصيات، إذاً، تتناوب في مرآة «فيلسوف الحرب» وهو يصنع التاريخ على هواه. سيطمئن أصدقاءه الإسرائيليين إلى أنّ ثوار ليبيا الجدد لن يكونوا أعداءً لدولة إسرائيل، ويبدد مخاوفهم من «الربيع العربي». يسأله وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان: «ولماذا سنُقلق ملك الأردن الشاب، فضلاً عن الملك السعودي العجوز الذي تُقيم إسرائيل معه علاقات سريّة، ويعيش الرعب من رؤية الربيع العربي يجرف عرشه؟»، ثم يعود إلى مواقعه في الميدان لتحريك خيوط اللعبة مجدّداً. مقابلات مع زعماء الثوّار، وخطابات حماسية في ساحات المدن الليبية الثائرة، تنتهي بحمله على الأكتاف بوصفه بطلاً، والمطلوب رقم واحد من القذافي مقابل مكافأة مجزية. لكنه لن يعبأ بالمخاطر، ولن يتردّد لحظةً واحدة في إكمال مهمته، فيما يتبعه الآخرون كالمسرنمين. يكتب البيان الرقم واحد لـ«المجلس الوطني الانتقالي»، ويكتب نصّاً آخر سينشره في صحيفة «لو فيغارو» بتوقيع رئيس المجلس مصطفى عبد الجليل، ويرافقه إلى الإليزيه، وحين لا يجد ما يتكلّم عليه في ما يخص ليبيا، يذهب بنا إلى البوسنة، ليذكّرنا بدوره هناك، ويعرّج أيضاً على أفغانستان، ورواندا، ودارفور، وتل أبيب، راسماً خرائط جديدة للعالم، قبل أن يعقد صفقات أسلحة لثوار ليبيا بموافقة الجنرال عبد الفتاح يونس قبل مقتله الغامض (يتّهم كتائب القذافي باغتياله)، كذلك سيستعيد ذكرياته عن أجداده اليهود في صحراء بني ساف، وموت جده شالوم بن يعقوب
كقديس.
بعد أن ينخرط ساركوزي في لعبة الحرب، لن يكف هاتف الفيلسوف عن الرنين للرد على استفسارات الرئيس وخططه واحتمالات الفشل والنجاح. ساركوزي هنا، أسير أفكار الفيلسوف، رغم اختلافهما الإيديولوجي. لعل هذا الانصياع التام، وهذه الثقة العمياء، تتعلق بشغف الرئيس بالشهرة أيضاً، فكلاهما ـــ في نهاية المطاف ـــ استعراضيان، وهذا ما حدا بهما إلى إبعاد وزير الخارجية الفرنسي آلان جوبيه عن كواليس المطبخ الحربي. لا يتورّع هنري ليفي عن كشف أسرار ما حدث في ليبيا خلال وجوده هناك، وإضاءة وقائع الحرب بوصفها واقعاً: «سواء أراقتْ لنا أم لا، لم تطلب من أحد السماح لها بأن توجد، وتسلك المجرى الذي حدّده لها التاريخ».
هذه الحماسة، من جهة أخرى، تنطوي على أنا متضخّمة، ونرجسية، تزيح الآخرين من الصورة، ليقف هذا الفيلسوف وحده في إطارها المذهّب. لن ينسى في غمرة انشغاله في تصوير المعارك أن يستعير صورة أخرى له كمثقف متفرّد. هذه المرّة، يرتدي قناع جان بول سارتر، موجّهاً اللوم إلى مثقفين أوروبيين وقفوا ضد الحرب بمقولة لمارسيل آميه «نقطة ضعف الكتّاب كلّهم تقريباً أنهم يقدّمون أفضل ما عندهم، وأكثر ما كتبوه تفرّداً، وذلك للحصول على وظيفة ماسحي أحذية في السياسة». قد تتناسب هذه العبارة مع مواقف برنار هنري ليفي، لا الآخرين. يبرر انخراطه بأن «لا حرب عادلة»، لكنّ هناك شرطاً آخر هو «الأمل المعقول في النجاح». ويضيف: «هذا الأمل واضح في ليبيا، فهل سيكون واضحاً بالطريقة نفسها في سوريا؟ ماذا سيكون أثر الضربات الجويّة في هذا البلد كثيف السكان؟».
لا شك في أنّ نهم هنري ليفي وشهيته في صناعة «مونودراما الحرب» لن تتوقف عند حدّ، في منطقة ملتهبة، ستتيح له ببساطة أن يؤدي دور المحارب الأوحد فوق خشبة تاريخ مهتزّ، يحتاج إلى بهلوان مثله، فهل سيوافق على أداء دور جديد في دمشق كمحصلة لرجاء معارضة سورية أتته بوصفه «السيد ليبيا» لاستنساخ الشيء نفسه في سوريا؟ يجيب: «كان من المؤلم القول لها إن التاريخ لا يعيد نفسه إلا نادراً، والاحتمال ضعيف جداً بإيجاد الكوكبة نفسها من الأشخاص والظروف، أو من الخلافات والضرورات». ويضيف مُطمئناً محدثته: «ولكن، في المحصّلة، لا ندري». هنا يستعير دور خبير الأرصاد الجويّة: «ذوبان الثلوج المفاجئ يعني ربيعاً مجهضاً». بعد شهر من تلك الواقعة، سيوافق على «الاجتماع الأول من أجل سوريا» (4 تموز/ يوليو 2011)، وذلك في «سينما سان جيرمان» في باريس، كي لا يقال عنه إنه يكيل بمكيالين. هكذا، حشد شخصيات سورية وفرنسية من مشارب متعددة لإنجاح المهرجان.
ستتدفق سيول من الشتائم على شبكة الإنترنت العربية ضد «الصهيوني برنار هنري ليفي»، وسيفكر في إلغاء المهرجان، ثم يعود متحدياً، ومدافعاً عن مواقفه من إسرائيل: «العلاقة مع إسرائيل هي مُكوّن من مكونات يهوديتي، ولن أنكر نظريتي في مؤتمر القدس: يتعيّن أن نكون في منتهى القسوة مع الإسلام الفاشي، وقلت دائماً إن حرب الحضارات الوحيدة القائمة في الإسلام، هي التعارض بين الإسلاميين الفاشيين والمعتدلين، بين أعداء الديموقراطية وأصدقائها.
هذه هي الحرب التي أُلاحقها». فيلسوف أم جاسوس أم مغامر؟ تلك هي الصورة التي ستبقى ملتبسة حتى السطور الأخيرة من هذا الكتاب...