ماء وجه باسيل

الرجل الذي تبعته بإشارة من زميل له، كان واقفاً هناك في عتمة حمامات مؤسسة كهرباء لبنان، حيث يعتصم المياومون منذ أكثر من 95 يوماً، وهو يحاول التفلّت من أذرع رفاقه التي تحاول احتضانه لتهدئة انفعاله. كان الرجل يبكي، نعم يبكي، وسط هذا المكان القميء الذي كانت رائحة البول تفوح منه، وهو يحاول مسح دموعه بفانلته المشبعة بالعرق المتصبّب منه في هذا الحرّ الذي لا يطاق.

والعرق كان يتصبّب من الجميع هنا: صحافيون، مياومون، جباة ونقابيون. العتمة تامة في مبنى المؤسسة التي شهدت واحدة من أحلى المعارك النقابية التي تابعها اللبنانيون بشوق، لذلك استحقت عقاب قطع التيار عنها. قطعت المؤسسة التيار عن اعتصام المياومين، الصائمين منهم والصامدين إلى جانب الصائمين، ولم يبق إلا قطع المياه، فالتصقت القمصان بالأجساد وتصبّب العرق وفاحت الروائح وزاغت العيون. يا لهذا الجسد الذي يقف على حافة التعفّن. لو نتفكر بمدة صلاحيتنا كبشر فانين، هل كان التكالب على المصالح ليكون بهذه الشراسة؟

كل ذلك والمفاوضات على قدم وساق بين المعتصمين أنفسهم لاتخاذ قرار: هل يقبلون بفك الاعتصام قبل تطبيق الاتفاق الذي توصّل إليه السياسيون من أجل «حفظ ماء وجه باسيل» كما يطلب بري؟ أم لا يفعلون قبل تطبيق الاتفاق لضمان مصالحهم؟.
ولأن الجميع شاركوا في نجاح هذا الاعتصام، فقد استحقّ أن تؤخذ دواعي قلق الجميع في الاعتبار. لكن، للمرة الأولى، شهدنا على نقاشات وشجارات بصوت عالٍ. كان البعض يحاول أن يفهم لمَ لا يقبلون بالحل الذي يحفظ لجبران باسيل «ماء وجهه» طالما أنه يلبّي معظم مطالبهم؟ في حين أن آخرين لم يكونوا يفهمون لماذا سيكون عليهم «الثقة» باتفاق بين سياسيين، وفك اعتصام ناجح أشرف على أن يؤتي أُكُله قبل أن يطبّق الاتفاق.
«نحنا بلبنان» يقول البعض، يستعيدون مقولة أنه «في هذا البلد» يجب علينا القبول بتسويات «لا غالب ولا مغلوب». السياسيون مرّوا من هنا، أقول في نفسي. لماذا يكون «ماء وجه» الوزير مبذولاً إذا أعطى المياومين حقهم؟ لماذا يكون ماء وجهه مهدوراً إذا نُفّذ الاتفاق قبل فضّ الاعتصام بما يطمئن تلك القلوب الواجفة والتي تناضل لنيل حقوقها بلحمها الحيّ، حرفياً؟ إنه لبنان، حيث مفهوم السياسة هو التحدي والعنترة وتكسير الأضعف، وليس تسيير شؤون الناس بما يضمن تقدمهم ورفاههم وتحسين مستوى معيشتهم. لماذا؟ لا أحد يفهم، أو ربما هو مفهوم أن ماء الوجه في لبنان لا يخسره المرء إلا في مواجهة مع فقراء لا حول لهم ولا قوة.
المضحك المبكي أن بعض المياومين أقنعوا بعضهم الآخر بأنهم إنْ أرادوا أن يستمروا بالاعتصام بانتظار تطبيق الاتفاق، فإن «الغطاء السياسي» سيُرفع عنهم، كما قال لهم المفاوضون. أي؟ «ممكن يجوا الدرك ويطلّعوكم بالقوة من هون». كأنه كان باستطاعة الدرك أن يدخلوا في هذه المعركة ببساطة من دون خسائر وأمام عدسات الإعلام. أصلاً منذ متى كان هناك غطاء سياسي للاعتصام؟ ألم يكونوا هم غطاء أنفسهم؟ ألم تكن وحدتهم وإصرارهم وتضامن الإعلام معهم هو مَن حماهم؟ لماذا لم يحمهم الغطاء السياسي في الغزوة العونية الأولى التي أمطرتهم خلالها «ميليشيا أولاد الجامعات» بالحجارة؟ لقد كاد هؤلاء أن يتسبّبوا بمقتل أي من المعتصمين لو أصابوه بالحجارة القاتلة التي كانت تُرمى عليهم من الطريق وهم تحت قابعون تحت رحمتها. كيف اقتنعوا بذلك، لا أفهم.
ربما تعب المياومون من المياومة، وتعبوا من الاعتصام، ربما تعب أولادهم أيضاً، وتعبت عائلاتهم من الرزق المقطوع منذ بدايته. ربما، وعلى الأرجح، لم يصدقوا أن النجاح الذي أنجزوه، هو نجاحهم هم، وحدهم . ربما كان علينا أن ننتظر المعركة المقبلة ليتشكّل هذا الوعي.
المهم، اليوم أو غداً، ستُحلّ المسألة. عندها سيكون بالإمكان الانتقال إلى معركة أخرى حجبتها معركة المياومين إلى حين.. أي معركة إلغاء خطة التشركة التي سترفع فاتورة الخدمات الكهربائية التي كان المياومون يقومون بها إلى ثلاثة أضعافها.
هذه هي المعركة المقبلة. ربما كان في ذلك، وفي تخيُّل وجوه المعتصمين العائدين إلى أحضان عائلاتهم ببعض الأمان الوظيفي، فقط، بعض العزاء.

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 8/4/2012 3:43:46 AM

رائعة يا ضحى

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 8/3/2012 6:18:03 PM

إنه الخوف من اختلال النظام الطائفي الطبقي وإحتمال اجتياز المحرومين السياج الطائفي والانضمام يدا بيد مع الإخوة في الكفاح من أجل الكرامة ولقمة العيش. الكل تآمر لسحق انتصار واضح لفئة مناضله حتى لا تكون مثالا ساطعا على كيفية إنتزاع الحقوق من بين أنيآب هذا الوحش الطائفي. حفظ ماء وجه باسيل هوحفظ ماء وجه النظام الطائفي. يا محرومي لبنان إتحدوا

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 8/6/2012 10:48:59 AM

بالظبط هيك! مقالة ضحى صح وتعليق بمكانه

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم