غزّة | منذ ستة أيام يعيش أكثر من مليون ونصف مليون غزّي، معزولين عن العالم الخارجي. سجناء في 360 كيلومتراً مربعاً تمثّل مساحة قطاع غزّة الساحلي المحاصر برّاً وبحراً وجوّاً، إثر قرار مصري بإغلاق معبر رفح البري، وهو المنفذ الوحيد للغزيين، وإغلاق أنفاق التهريب المنتشرة أسفل الحدود الفلسطينية المصرية، التي مثّلت خلال ستة أعوام من الحصار، شريان الحياة، الذي أمدّ أهل غزّة باحتياجاتهم ومستلزماتهم التي أبقتهم أحياء.
وفي الوقت الذي اتخذت فيه مصر قرارها بإغلاق المعبر، سارعت حركة «حماس»، صاحبة السلطة والحكم في قطاع غزة، إلى إغلاق الأنفاق من جانبها، في إجراء بدا كأنه محاولة من الحركة الإسلامية لدرء الشبهة عن نفسها، والتصدّي لسهام الاتهامات بمسؤوليتها المباشرة أو غير المباشرة عن الهجوم الدامي، الذي تعرّض له الجيش المصري في سيناء، مساء الأحد الماضي، وأودى بحياة 16 جندياً وإصابة آخرين.
وحافظت حكومة «حماس» على تعزيزات أمنية كبيرة، ودوريات محمولة وراجلة، على امتداد الشريط الحدودي، وعلى نحو مكثف في المقاطع الحدودية التي تنتشر فيها الأنفاق، لمنع تسلل أي مشبوهين. وقالت مصادر رسمية لـ«الأخبار» إن الأجهزة الأمنية التابعة لحكومة «حماس» في قطاع غزة باشرت فور وقوع الهجوم تحقيقات داخلية للتثبت من صحة الاتهامات بمسؤولية جهات في غزة عن الهجوم أو مشاركتها فيه. وذكرت أن المستويين السياسي والأمني في حكومة «حماس» تواصلا مع مصر، وأبديا استعداداً تاماً للتعاون وتعقب أي خيوط داخل غزّة، وملاحقة أي متهمين يثبت تورطهم في الهجوم، لكن السلطات في غزّة لم تتلق أي معلومات من الجانب المصري حتى اللحظة.
وكشفت المصادر نفسها أنّ «حماس» عرضت على مصر قبل وقوع الهجوم الأخير وبعده، تأليف قوة أمنية فلسطينية مصرية مشتركة، مهمتها ضبط الحدود، ومنع أي أحداث قد تضرّ بالأمن القومي لمصر أو غزة، لافتةً إلى أن «حماس» تدرك أن «هناك جهات، لم تسمها، لن تتورع عن فعل أي شي، وحتى ارتكاب جرائم، من أجل تخريب العلاقة بين غزة ومصر»، التي أخذت مساراً تصحيحياً سليماً بعد إطاحة نظام حسني مبارك، وانتخاب محمد مرسي رئيساً للجمهورية.
وبحسب المصادر نفسها، فإن حكومة «حماس» طالبت السلطات المصرية بمكافحة وإغلاق الأنفاق الموجودة شرق معبر رفح، وهي المنطقة القريبة من السياج الحدودي الفاصل بين قطاع غزة وإسرائيل، وليس بإمكان الأجهزة الأمنية في غزة إحكام السيطرة عليها، وتعاني من استخدامها في تهريب المخدرات ومواد ممنوعة.
وتخشى حركة «حماس» من أن يُطيح الهجوم الدامي وعود كسر الحصار عن قطاع غزة، التي تلقتها من الرئيس المصري، وخصوصاً في ظل هجمة إعلامية مصرية غير مسبوقة، وصلت الى حدّ تمزيق العلم والكوفية الفلسطينية في جنازة تشييع ضحايا الهجوم.
وتسبّب إغلاق أنفاق التهريب في ارتفاع أسعار كثير من السلع والبضائع، وأهمها مواد البناء، واختفاء الوقود من محطات التعبئة، التي تسابق الغزيون عليها للتزود بما يساعدهم على تشغيل سياراتهم، ومولداتهم الكهربائية في ظل أزمة كهرباء خانقة يشهدها القطاع منذ بداية شهر رمضان الجاري.
وقال أصحاب أنفاق وشهود في شطري مدينة رفح، الفلسطينية والمصرية، إن آليات ضخمة من حفارات وعربات ضخ مياه، تساندها عربات مصفحة تابعة للجيش المصري، تعمل منذ عدّة أيام على تمشيط الشريط الحدودي، بحثاً عن أنفاق. وأكدوا أن أصحاب أنفاق هربوا من المنطقة، وغادروا منازلهم، منذ بدء الحملة الأمنية، خشية من تعرضهم للاعتقال، بينما سجلت السلطات المصرية قائمة بأسماء أصحاب أنفاق تم كشفها، والعاملين فيها.
وذكر شهود وسكان في الجانب المصري من مدينة رفح، أن الحملة لا تزال بعيدة عن أنفاق الجهة الغربية من المدينة، وهي منطقة سكنية مكتظة، بينما تمكنت القوات المصرية من العثور على بضعة أنفاق وتدميرها في منطقة خالية قريبة من معبر رفح، وبوابة صلاح الدين.
من جهته، قدّر الخبير الاقتصادي، عمر شعبان، حجم التجارة عبر أنفاق التهريب بنحو نصف مليار دولار سنوياً. وقال إن «غزّة اعتادت الاعتماد على هذه الأنفاق نظراً لطول مدّة الحصار، وباتت كأنها معابر دائمة، ومن شأن إغلاقها التام مرّة واحدة، أن يؤثر على نحو مدمر في نواحي الحياة». واستشهد بقطاعي البناء والوقود، وقال «إذا طالت مدة إغلاق الأنفاق عن أسبوع واحد، فإن ذلك سيؤدي إلى توقف عجلة الحياة في غزة، التي تعمل في جلّها على الوقود المصري المهرب، بينما سيؤدي غياب مواد البناء إلى توقف المشاريع وفقدان نحو 15 الف عامل لأعمالهم وانضمامهم إلى جيش العاطلين من العمل».
وفي موازاة الجهود المصرية لتدمير الأنفاق، أكّد رئيس هيئة المعابر والحدود في حكومة «حماس»، ماهر أبو صبحة، أن الحكومة على استعداد لتدمير الأنفاق بيدها، إذا تم رفع الحصار كلياً، وفتحت المعابر أمام حركة الأفراد والبضائع. وقال إن «الغزيين لجأوا إلى الأنفاق بحثاً عن سبل الحياة، وإذا توافرت لهم هذه السبل بوسائل مشروعة فوق الأرض، فلن يصبح هناك أهمية للنزول تحت الأرض والمقامرة بحياتهم بحثاً عن لقمة العيش». وأيّد مالكو أنفاق في شطري مدينة رفح الفلسطينية والمصرية، إغلاق هذه الأنفاق، شرط أن يسبق ذلك إجراءات تتعلق بحل مشكلة البطالة المستشرية في محافظة شمال سيناء، ورفع الحصار كلياً عن قطاع غزة. بينما رفض متعهد أنفاق في رفح المصرية، وهي المهنة التي تعرف باسم «الأمين»، إلقاء المسؤولية على الأنفاق بأنها السبب في الانفلات الأمني والهجمات الإرهابية الذي شهدتها سيناء، وقال «إذا كانت الأنفاق هي سبب الاعتداءات وحوداث القتل فنحن لا نريدها، ولكن هذا الأمر غير صحيح».
وتساءل المتعهد، الذي كنى نفسه باسم أبو سالم، في اتصال هاتفي مع «الأخبار» «لماذا لم تحدث مثل هذه الأعمال الإرهابية والاعتداءات الكبيرة في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك؟»، مجيباً نفسه «هناك جهات داخلية وخارجية في مقدمتها إسرائيل من مصلحتها زعزعة أمن سيناء وإحراج الرئيس مرسي، وتخريب العلاقة مع غزّة وحماس».
ويدافع أبو سالم عن هذه الأنفاق ويرى أنها خدمت أهل سيناء بقدر ما ساعدت أهل غزّة على تحدي الحصار، لافتاً إلى أنها ساهمت في التصدي للبطالة ووفرت آلاف فرص العمل للسيناويين في ظل الغياب الرسمي للدولة المصرية، وانعدام مشاريع التنمية في سيناء.
وفي السياق نفسه، طالب صاحب نفق فلسطيني، رفض ذكر اسمه، بفتح معبر رفح أمام حركة الأفراد والبضائع، وإنشاء منطقة تجارة حرة على جانبي الحدود، لتمكين سكان غزّة من العيش والحياة، قبل البحث في إغلاق أنفاق لها الفضل في بقاء الغزيين على قيد الحياة رغم الحصار الجائر. وحذّر من أن إغلاق معبر رفح والأنفاق لن يحقق الأمن لأحد، بل سيؤدي إلى انفجار في وجه الجميع، وتساءل «هل فكر دعاة إعادة الحصار وتشديده على قطاع غزة في مصير أكثر من مليون ونصف مليون فلسطيني، وفي ردّ فعلهم؟»، مذكراً بما حدث في مطلع عام 2008 عندما اجتاح أكثر من ثلثي أهل غزة الحدود بين غزّة ومصر بحثاً عن سبل الحياة.
ورغم إغلاق الأنفاق وتدمير القوات المصرية لعدد منها، أكد أصحاب أنفاق وشهود عيان، في المقابل، لـ«الأخبار» أن الأنفاق عادت للعمل مساء أول من أمس، وخصوصاً لضخ الوقود. وقال أبو إبراهيم، وهو صاحب نفق، إنه تم إبلاغهم من قبل لجنة الأنفاق التابعة لحكومة غزّة بعودة العمل في الأنفاق لضخ الوقود الى غزة، وأنّ العمل يجري تحت رقابة الأمن.
كذلك أكد أبو أحمد، وهو صاحب نفق آخر، أن أغلب الأنفاق التي تعمل هي لإدخال الوقود، مشيراً الى أن الأمن المصري هدم خلال الأيام الماضية عدة أنفاق تهريب مكشوفة، فيما ذكر شهود عيان أنهم شاهدوا «العديد من شاحنات الوقود تصل إلى منطقة الأنفاق لتعبئة الوقود». وتراجع مستوى العمل في الأنفاق إثر قرار إسرائيل إدخال تسهيلات على الحصار مطلع تموز 2010، استجابة لضغوط دولية بعد الجريمة التي ارتكبتها قواتها البحرية ضدّ «أسطول الحرية»، الذي كان ينقل مساعدات إنسانية الى القطاع، وأدّت الى مقتل تسعة متضامنين أتراك.
ويتركز نشاط الأنفاق حالياً على نقل الوقود ومواد البناء، وتنقل أفراد بغرض زيارة ذويهم في قطاع غزة، ممن لا يمتلكون بطاقات هوية فلسطينية، ولا يمكنهم السفر عبر معبر رفح البري. ويطلق على هؤلاء الفلسطينيين اسم النازحين، وهم الذين سقطت أسماؤهم من السجلات إثر نزوحهم عام 1967 وعدم عودتهم لتجديد بطاقات الهوية الشخصية.



فتح معبر رفح باتجاه واحد

أعلنت وسائل الإعلام المصرية، أمس، أن مصر قررت إعادة فتح معبر رفح في اتجاه واحد ليتاح للفلسطينيين العالقين على أراضيها العودة الى قطاع غزة. وقالت «تقرر فتح معبر رفح في اتجاه واحد»، وخصوصاً ليتمكن «الحجاج الفلسطينيون العائدون من السعودية من العودة الى بيوتهم». وأوضحت أن فتح المعبر «استثنائي»، بدون أن توضح كم سيبقى مفتوحاً، فيما أكد مصدر أمني أن المعبر أُعيد فتحه في اتجاه واحد. وقال شهود إنه تم السماح للركاب الذين تقطعت بهم السبل بالعودة إلى غزة، لكن لا تزال هناك قيود على العبور من غزة إلى مصر. وطالب رئيس حكومة «حماس» في غزة اسماعيل هنية، مصر أول من أمس بفتح معبر رفح. وكانت مصر قد أغلقت المعبر الى أجل غير مسمى يوم الأحد الماضي بعد مقتل 16 من حرس الحدود المصريين في هجوم مسلح.
(أ ف ب، رويترز)