الحفلة ستكون تاريخية حقاً. نحن على موعد في «معبد باخوس» مع العازف الفرنسي الشاب الذي يؤدّي أعمالاً للبيانو المنفرد، من ريبرتوار قطبَيْ المدرسة الجرمانية: باخ وشوبرت بشير صفير يصل برنامج «مهرجانات بعلبك» إلى ظاهرة موسم 2009 مع أمسية دافيد فراي (1981). يقارب المختصّون عازف البيانو الفرنسي الشاب على أنه ظاهرة موسيقية، حتى اعتُبر «غلن غولد القرن الحادي والعشرين». لكن، هل هو حقّاً غولد العصر؟ بالتأكيد لا. هذا هو الجواب الأخير. جوابٌ يقترب من الـ«نعم» في بداية العلاقة مع فراي، ثم يبتعد بعد التدقيق، ويقف عند نقطة ليست بعيدة من اعتباره «غلن غولد الجديد». أما المقاربة لبلوغ هذه الخلاصة فهي أداء أعمال «إله الموسيقى» بالنسبة إلى غولد، أيّ باخ، المؤلف الألماني الكبير الذي يمثّل اليوم محور اهتمام فراي، وبالتالي نقطة التقاء مع زميله. لا شك في أنّ موهبة فراي كبيرة، لكن عند باخ لا تكفي المواهب. الكندي غولد خرق جدار السرّ الكبير الذي يلفّ باخ بإحكام. أما فراي فتنقصه الفلسفة الموسيقية التي تمنحه شرف لمس قدس الأقداس هذا في الجوهر. لقد وجد غولد التوليفة المثلى بين الدينامية وسرعة الإيقاع في أعمال باخ، و«حذف» شخصيته أمام إرادة الأخير، علماً بأنّ الأغلبية ترى العكس. هذه الإرادة لم يفصح عنها باخ بوضوح في التدوين الموسيقي، لكن سرّ أداء «المعلِّم» يكمن في التكهُّن الصائب بتلك الإرادة المخفية. أما في أداء فراي لباخ، فنلاحظ أنه يلتقط «شيئاً ما» من السرّ العظيم، لكنّه يعجز عن السيطرة عليه لوقت طويل، أو عن التعبير عنه بوسائله.
مقطع من "Bach - Keyboard Concerto Nr. 1 - 3rd movement - d.fray, piano"
الدينامية مثلاً في الأداء تتلاعب عنده، أما غولد ففهم أن الدينامية في باخ محكومة بهامش ضيق، لأن موسيقاه لغز إلهي موضوعي، لا تعكس علاقته بالمجتمع، وبالتالي لا يراد منها لفت الأنظار. كلاهما، غولد وفراي، مشدود الأعصاب أثناء الأداء، وهذا أساسي في باخ، وتحديداً في الحركات السريعة، وذلك بفعل ثبات الإيقاع من جهة وانفصال النوتات (ستاكاتو) من جهة أخرى. لكن الأول يضبط هذا الاحتقان ولا يسربه إلى أصابعه إلا في حدود، بينما «يتحمّس» الثاني عند المفترقات وذروات التعبير، فيبالغ في إظهار أصواتٍ نسبة إلى أخرى. نجح فراي حتى الآن في مسيرته، فقدم أداءً مميزاً في شوبرت وباخ. وفي تسجيله الأخير الذي حوى أربعة (من سبعة) كونشرتوهات للبيانو والأوركسترا لباخ، استطاع تقديم نفسه كأحد أهم الموسيقيين الواعدين في هذا المجال. رغم ذلك، نجد في هذه الأسطوانة لحظة غير مرغوبٍ فيها. مثلاً: لا وجود للزوايا المدوَّرة عند باخ (أي، إضافة علامة عارضة التي تُدوَّن على شكل «كْروش» صغيرة الحجم وتوضع نصف درجة أعلى [في هذه الحال] أو أدنى، قبل النوتة المُراد تلوينها)، وهذا الخطأ الفادح الذي ترتكبه الأوركسترا في الحركة الثالثة من الكونشرتو الأول، وما كان ليتحمّل فراي المسؤولية لو لم يتولّ بنفسه قيادة الأوركسترا. في المقابل، أهم ما قدّم فراي في العمل هو أداؤه الاستثنائي في هذه الحركة تحديداً. إنها سخرية القدر.
مقطع من "Bach - Keyboard Concerto Nr. 1 - 3rd movement - g. gould, piano"
من ناحية ثانية، بدا جلياً أن فراي سيتخصص في الموسيقى الجرمانية (الألمانية والنمساوية)، وقد صرّح بأنه سيكون سعيداً لو استطاع «أداء كل أعمال البيانو التي تركها باخ وهايدن وموزار وشوبرت وشومان وبرامز»، إلا أنه نسِيَ (؟) وريث المدرسة الثائر: بيتهوفن. في حفلته اللبنانية، سيؤدي فراي أعمالاً للبيانو المنفرد من ريبرتوار كلّ من قطبَيْ المدرسة الجرمانية هذه: باخ وشوبرت. وسيؤدي أعمالاً للمؤلفَيْن الكبيرَيْن لم يسجلهما قبلاً، علماً بأنه سجل أعمالاً أخرى لكِليْهما. في القسم الأول من الأمسية، اختار فراي من عند شوبرت مقطوعة نادرة بعنوان Allegretto وKlavierstücke الرقم 2
مقطع من "Schubert - 6 Moments musicaux - # 3 - a. brendel, piano"
ومجموعة Moments musicaux الست. وبعد الاستراحة، يقدم مؤلَّفة كاملة لباخ، الـ Partita الرقم 6، وهو عبارة عن متتالية من سبعة مقاطع. وختاماً، نجزم (أو نكاد) بأن الحفلة ستكون تاريخية، وما الإضاءة على بعض «هفوات» فراي إلا خوفاً من أن يكون الفيلسوف الروماني إميل سيوران على حق عندما قال: «إذا كان الله موجوداً، فهذا بفضْل باخ». 7:30 مساء اليوم ـــ «مهرجانات بعلبك الدوليّة» ــــ 01/999666