يضع الشاعر الشاب كل حمولته في ديوانه الأول؛ لأنه يعتقد أن كل ما كتبه يستحق أن يُنشر في كتاب. لكن الناصحين والناشرين قد يؤثرون قليلاً أو كثيراً في الشكل النهائي للكتاب، بما يجعله مقبولاً إلى حد ما، ويتلاءم مع الذائقة السائدة. ربّما كان هذا الكلام ينطبق على ديوان الشاعرة السعودية الشابة نور البواردي «النصف المضيء من الباب الموارب» (دار الغاوون)، وذلك لسببين: الأول هو تدخل الناشر بحكم خبرته في العمل، في اختيار بعض النصوص أو استبعادها. والثاني هو التقنية التي كتبت بها النصوص، ومدى تأثرها بالشعر الأوروبي الحديث. السبب الأول لا يعنينا، والثاني هو ما نريد الإضاءة عليه، وخصوصاً أنّ الشاعرة كانت قد درست الأدب الإنكليزي.هناك ميزة واحدة في هذا الديوان توحي بأنّ الشاعرة يمكن أن تتطور في المستقبل، وتنجز قصيدة جيدة. هذه الميزة هي وحدة المناخ العام في النصوص، على صعيدي الأداء اللغوي والمضامين ووضوح التجربة إلى حد ما. لكن هذا لا يلغي وجود نصوص قصيرة، ساذجة، ما كان لها أن تدخل في هذه المجموعة، ولا بعض الجمل التي تعد من الكليشيهات بحكم قصر تجربة الكتابة، مع أنّها قليلة ولا تؤثر في بعض النصوص التي تقترب من النضج الكامل.
تدوّن نور البواردي أسرارها الصغيرة التي لا يعتد بها أحد، في تلك العزلة التي تعيشها، في ذلك المكان الصغير للغاية (غرفتها) الذي يمثل عالمها الخاص. طاقتها الشعرية تكمن في تحويل الأشياء الصغيرة في هذا العالم الضيق، إلى أفكار شعرية طيبة. لكن يبدو تأثير الشاعرات الأميركيات واضحاً على هذا الجهد إلى درجة كبيرة، بحيث تتطابق الأجواء أحياناً ويفقد النص هويته.
«القدم الموعودة بجناحين ورقصة تانغو أخيرة/ التي تترك آثاراً وردية قرب محطة القطار/ وفوق مقاعد السيرك المهجورة/ كالربيع الباهت المنسدل من جيب معطف قديم/ الخيط الكريه الذي لا يحبه أحد «قصيدة» معجونة بمادة لزجة».
لو تأملنا فكرة القصيدة أولاً، وبالتالي طبيعة المناخ الذي تتحدث عنه، وأخيراً خاصية المكان، لتبين لنا أنّ هذه القصيدة تدور في بلد أوروبي، وليست لها علاقة، لا من قريب ولا من بعيد، بالمحيط الذي تعيش فيه الشاعرة. هناك موعد للرقص في مكان ما والرقصة محددة «تانغو»، وهناك محطة قطار وسيرك وربيع باهت... وهذه كلها مفردات الشعر الأوروبي والأميركي، ما يدل بقوة على تأثر الشاعرة بهذه الأجواء وشعرائها.
لكن هناك نصوص أخرى مغايرة تماماً، وهي عديدة، تصف ذلك العالم الضيق الذي لم تطوره الشاعرة من الناحية الفنية. ولو فعلت، لكانت قد أنجزت شيئاً مهماً للغاية، لأنّها في الحقيقة لا تمتلك غير أشياء بسيطة وصغيرة، ولغة سلسة استطاعت أن تصنع منها عالماً خاصاً. الخبرة في هذا المجال تقوم بمهمة كبيرة قد تتوافر عليها الشاعرة في المستقبل.
«الشق الفارغ من الخزانة، من الجهة اليمنى لسريري، من جانب الأريكة الزرقاء، من المساحة الشاغرة فوق الرف، من عدد كراسي طاولة الطعام، من بطاقات الدعوة، من صوت المجيب الآلي، الشق الذي لا يترهّل من جسدي يشعرني أنني امرأة وحيدة «قصيدة» شاغرة».
في هذا النص القصير الذي يدور في مكان محدود وصغير للغاية تعود الشاعرة إلى بيئتها الحقيقية، وتصف عالماً ضاجاً بالأشياء الميتة. الأشياء الحاضرة بقوة، لكن الإنسان غائب فيها، وليس له وجود.
1 تعليق
التعليقات
-
فريسة وصياديهجم الشاعر صلاح حسن في هذه الخاطرة النقدية على شاعرة صغيرة، حتى لكأني أكاد أسمع مضغ لحم وطحن عظم، مع أن "عدة الجزارة" -أقصد العدةالنقدية- التي يتعامل بها مع النصوص، هي مجرد أدوات ستينية علاها صدأ الزمن. إذ ما هو المطلوب -يا أخي- من فتاة صغيرة لا تتيح لها البيئة المغلقة التي تعيش فيها، حيزا للحركة أكثر من غرفتها؟ ما الذي تستطيعه بنت هكذا سوى استنطاق أشيائها الصغيرة في غرفتها الصغيرة، والحلم بشوارع وأمكنة وطقوس حياة أرحب وأوسع سواء في شوارع السعودية أو شوارع أوروبا؟ ثم - يا أخي- أليس الكلام عن الهوية أصبح من كلاسيكيات الماضي بطريقة ما، في عالم تسيل فيه اللغات والهويات والأفكار والجينات، حتى أنه يستحيل أن تجد هوية "معقمة"؟ ما لـ"البواردي" ومثيلاتها من مصادر معرفة وحياة، غير نصوص ورقية وأشرطة الميديا لترى العالم، حين يصادر سدنة العالم الفرح من العالم؟وأليس سؤالك عن "اين الانسان في النصوص" ، تجيب عليه بديهية بسيطة هي" ان غياب الانسان هو نفسه حضور الانسان؟ بمعنى انه "مغيب" وليس" غائبا" بفعل القمع والتحريم وقوانين العيب والحظر؟ دع "البواردي" تكتب نصوصها او قصائدها او خواطرها او خربشاتها، -ياأخي- فمن المضحك فعلا ان يكون معيارك النقدي هو أن يكون النص " مقبولاً إلى حد ما، ويتلاءم مع الذائقة السائدة" كما تقول أنت في بداية المقال.