القاهرة | بعد سنوات من الرقابة «الصورية» التي فرضها «صندوق النقد الدولي» على موازنة الدولة المصرية وآليات الإنفاق فيها، عبر إيكاله هذه المهمة إلى المجلس النيابي الذي اختارت الأجهزة الأمنية غالبية أعضائه في انتخابات شابها التزوير وإقصاء الأصوات المعارضة، طالب «النقد الدولي»، الحكومة المصرية، بأن تتيح جميع أرقام موازنتها علناً، بما يشمل تفاصيل الإنفاق الحكومي، والتي غابت الشفافية عنها لسنوات، وآليات توزيع الأموال، وسط المطالبة بتقييد امتيازات شركات الجيش. وبدا، عبر ذلك، أن الصندوق استطاع فرض رؤيته على الحكومة المصرية، وفقاً لما أظهره تقرير خبرائه، والذي قُدّم الشهر الماضي للدول الأعضاء، وجرى نشره أخيراً، متضمّناً أول مراجعتين من «برنامج تمويل مصر»، بما يشمل شرحاً تفصيلياً لموقف الحكومة، والتعهّدات التي تقدمت بها في المقابل. ولا تقتصر خطورة تينك المراجعتين على الشروط التي فرضها "النقد الدولي"، والتي تعلَن صراحة للمرة الأولى، بل تمتد إلى الانصياع الحكومي لها، والذي يتنافى مع مختلف التصريحات الرسمية الصادرة عن المسؤولين المصريين، بمن فيهم الرئيس نفسه. كما أنها لا تقلّ عن الرقابة الثنائية التي فرضها الإنكليز والفرنسيون على الخديوي توفيق قبل قرنين من الزمان وكانت سبباً في تدمير الاقتصاد المصري. والظاهر أن الصندوق أدرك عدم قدرة الحكومة على الاستمرار من دون دعمه، المتمثل في الشرائح التي تحصل عليها الحكومة، وتشجيع الاستثمارات الأجنبية على الدخول في السوق المصرية، وهو ما أتاح له فرض كلمته.وفيما كشف التقرير عن عدم التزام الحكومة بثمانية شروط لـ«النقد الدولي» من أصل 15 شرطاً، كانت وعدت الالتزام بها، تبيّن عبره أن الصندوق ألزمها بنشر جميع عقود المشتريات العامة التي تزيد قيمتها عن 20 مليون دولار على بوابة «المشتريات الحكومية الإلكترونية»، وإرفاقها بكل المعلومات التي تخصّ مَنح العقود عبر مناقصات، بما يشمل معلومات عن جميع العطاءات المقدمة، وتحديد أسماء مقدّميها، واسم العطاء الفائز، على أن تتم إتاحة تلك البيانات خلال 30 يوماً من نهاية العطاء. أيضاً، ألزم «النقد الدولي»، الحكومة، بنشر أحدث 3 تقارير سنوية للجهاز المركزي للمحاسبات، بالتوازي مع نشر تقرير سنوي شامل عن النفقات الضريبية، بما في ذلك تفاصيل وتقديرات الإعفاءات الضريبية، علماً أن هذه الأخيرة تستهدف الشركات في المناطق الاقتصادية الحرة، وجميع الشركات المملوكة للدولة سواء منها شركات القطاع العام، أو تلك المملوكة للقوات المسلحة أو حتى المشاريع المشتركة.
رقابة الصندوق لن تقتصر على الإنفاق الحكومي فقط، بل تستهدف أيضاً البنوك المصرية


وفي إطار السعي إلى إغلاق أبواب التلاعب الخلفية، طلب «النقد الدولي»، وفقاً للتقرير نفسه، قيام وزارة المالية بمراقبة متأخرات الدفع والإبلاغ عنها، بما فيها تلك المرتبطة بالشركات المملوكة للدولة، على أن تنشر التقرير خلال 90 يوماً من نهاية السنة المالية، إضافة إلى نشر كل المعاملات، وإجمالي الالتزامات والمستحقات، والمدفوعات من وإلى وزارة المالية. أيضاً، كشف الصندوق، في مراجعته، عن تراجع عمليات بيع الأصول، وذلك المستهدف منها - خلافاً للتصريحات الحكومية - إلى 4 أصول فقط في العام المالي المقبل في قطاعَي الصناعة والطاقة، بنحو 3.6 مليارات دولار بشكل تدفقات نقدية. وعليه، قدّر «النقد الدولي» الفجوة التمويلية لمصر بنحو 28.5 مليار دولار، مع التشديد على ضرورة استمرار إبطاء وتيرة تنفيذ الاستثمارات العامة، والمضي قدماً في تشجيع القطاع الخاص ونموّه على المدى المتوسط، وتسوية مشكلة ديون الشركات الحكومية بسرعة.
على أن رقابة الصندوق لن تقتصر على الإنفاق الحكومي فقط، بل تستهدف أيضاً البنوك المصرية التي حذّر من تعرّضها لمخاطر ائتمانية بسبب إقراضها الجهات الحكومية نحو 8 مليارات دولار بالعملة الأجنبية، في وقت يُتوقع فيه استمرار ارتفاع عجز الحساب الجاري للبلاد في السنوات الخمس المقبلة. وعلى خطّ موازٍ، سيتابع «النقد الدولي» سياسات سعر الصرف المرن، والتي يتوجب على البنك المركزي الالتزام بها، مع وقف إقراضه للهيئات الحكومية، والتزام الحكومة بإدخال 15 مليار دولار من عائدات «صفقة رأس الحكمة» لبناء احتياطي نقدي في مواجهة الصدمات المستقبلية. ويبرز، من بين مطالب الصندوق، أيضاً، استمرار تطبيق مؤشر أسعار الوقود بالتجزئة وفقاً للصيغة المتفق عليها، وهو ما يعني استمرار رفعها محلياً إلى حين الوصول إلى بيع المحروقات بالسعر العالمي.
وفيما قلّص «النقد الدولي» مدة متابعته لما تقوم به الحكومة المصرية من إجراءات، لتكون كل ثلاثة أشهر، بدلاً من ستة أشهر، كما كانت سابقاً، من المقرر أن تكون المراجعة المقبلة في منتصف حزيران المقبل، بعد أن تكون الحكومة قد نفذت جزءاً كبيراً من المطالب، ولا سيما في ظل مساعيها إلى الحصول على شريحة جديدة من دفعة القرض بقيمة 820 مليون دولار، على أن تتبع ذلك مراجعة أخرى بحلول منتصف أيلول. ويأتي هذا بالتوازي مع حصول مصر على قرض ممدّد بقيمة 8 مليارات دولار، دخل حيّز التنفيذ بالفعل في الأسابيع الماضية، علماً أنها أصبحت ثاني أكبر مقترض، على المستوى العالمي، بعد الأرجنتين. ورغم تلقّي الحكومة 36 مليار دولار، في صفقة استثمار مباشر من الإمارات، يُستكمل سدادها في الشهر المقبل، لا يزال الوضع الاقتصادي حرجاً، في ظلّ بلوغ الديون والاقتراض نسباً قياسية، والتراجع في عائدات «قناة السويس» على خلفية التوترات الأمنية في البحر الأحمر. وفيما تنفي الحكومة المصرية، بشكل واضح، إمكانية تخلّفها عن سداد أيٍّ من ديونها، سوف يجري العمل على إعادة جدولة للديون، بشكل كبير، في الفترة المقبلة، عبر إطالة متوسط عمر الدين، ليُراوح ما بين 4.5 و5 سنوات، وإصدار سندات بآجال أطول، علماً أن متوسط هذا العمر يسجّل، راهناً، 3.2 سنوات فقط. والجدير ذكره، هنا، أن مصر أصدرت أدوات دين بقيمة تعادل 71.6 مليار دولار منذ بداية العام الجاري، بزيادة قدرها 57% على أساس سنوي، هي الأعلى منذ عام 2013، مستفيدة من تحسّن الوضع الاقتصادي في أعقاب الاتفاق مع «النقد الدولي».