يُعتبر كتاب «الفتنة الكبرى» من أهمّ الكتب التي كتبها المؤرّخ هشام جعيّط وتناول فيها أكبر انشقاق في المجموعة الإسلاميّة (29 - 41/650-661م)، وهو ما عبّر عنه بـ«تمزّق الأمّة». كما كانت الفتنة مهمّة في نتائجها، إذ نشأت بعدها مباشرة الدولة الأمويّة التي كانت أوّل دولة تركّز الملك. كما ظهرت التيّارات السياسيّة الدينيّة من خوارج وشيعة. تميّز هذا الكتاب بأهميّة دراسة ظاهرة تعمّقِ الديني وتطوّرِ الدنيوي أو الملك بما يشمله من محاباة الخليفة عثمان بن عفّان لأقاربه وإثراء على حساب بيت مال المسلمين.
تطوّرُ الدنيوي
تولّى عثمان بن عفّان بن أبي العاص بن أميّة (576-656م) الخلافة بعد اغتيال الخليفة عمر بن الخطّاب، وكان يُعدّ من العشرة المُبشّرين بالجنّة، ومن ذوي السّابقة والقدمة في الإسلام.
لكن منذ تولّيه السلطة، عمل على تغيير نمط الحكم بإدخال المحاباة، فعيّن أقاربه في مناصب حسّاسة كتعيين شقيقه من أمّه الوليد بن عقبة عاملاً على الكوفة سنة 654م عوضاً عن سعد بن أبي وقّاص الذي كان قائد القادسيّة وأحد كبار الصّحابة. وكان الوليد معروفاً بإظهاره لشرب الخمر، فبدأت تظهر في صفوف قرّاء الكوفة حركة تململ. وطبّق الخليفة عثمان بن عفّان نفس السياسة في مصر حيث عيّن عبداللّه بن سعد بن أبي سرح لولاية مصر سنة 636. وهو ابن عمّ عثمان وشقيقه بالرّضاعة عوضاً عن عمرو بن العاص.


وهو من الشخصيّات الإسلاميّة، حيث كان من قوّاد فتح الشّام، كما تولّى فتح مصر. ولم يكن عبداللّه بن سعد من أصحاب السابقة، بل كان ممّن نادى الرسول بهدر دمه لأنّه ادّعى القدرة على اختلاق آيات كالقرآن. وتطوّرت الأزمة بعد غزوة أفريقيا سنة 648 حيث منح عثمان مروان بن الحكم، ابن عمّه، خمس الغنائم متجاوزاً المبادئ الإسلاميّة التي توصي بتخصيص هذه الأموال لبيت مال المسلمين. وعيّن عثمان قريبه عبداللّه بن عامر على البصرة سنة 649 رغم صغر سنّه.
إضافة إلى هذه التّعيينات الخاضعة لعامل القرابة الدمويّة البحت، عمل الخليفة عثمان بن عفّان على تكسير سياسة الخليفة عمر بن الخطّاب، ومدّ يده إلى بيت المال، فأصبح يستعمل الأموال ليوزّعها على أقاربه، خصوصاً مروان بن الحكم. كما استعمل هذه الأموال لأغراضه الشخصيّة من بينها بناء قصر في المدينة. ووزّع أراضي العراق الخصبة على أقاربه.
رجع عثمان إلى التقاليد الما قبل إسلاميّة لبني أميّة، وهم فرع من بني عبد مناف في قريش. وقد تطوّرت هذه التقاليد بقوّة في فترة الخلفاء الأمويين حيث ظهر الملك والسلطة الفرديّة المتعارضة مع التقاليد الإسلاميّة التي فُرضت في الفترة الأولى للخلافة مع أبي بكر وعمر بن الخطّاب. كما نقمت المجموعة الإسلاميّة على عثمان لحرقه كلّ نسخ القرآن وإبقائه على نسخته المكتوبة على لسان قريش.
غذّت الفتنة الأولى تطوّر النزعة الإسلاميّة التّي كانت سبباً لمقتل الخليفة عثمان، ودافعت عن هذه النّزعة فئة الصّحابة في المدينة كعليّ بن أبي طالب والزّبير بن العوّام وطلحة بن عبيد اللّه وعائشة أمّ المؤمنين وزوجة الرسول، والقرّاء من الصّحابة والتّابعين. وهم من كتب وجمع القرآن في الأمصار خصوصاً في الكوفة والفسطاط في مصر والبصرة.

تعمّقُ الدّيني
تأسّست المعارضة ضدّ عثمان في الكوفة انطلاقاً من فئة الصّحابة خاصّة، منهم عبداللّه بن مسعود وعمّار بن ياسر. وهم من فئة الصحابة المستضعفين الذين رفعهم الإسلام. وكانوا من المدافعين عن مبادئ الرّسول وأبي بكر وعمر. فقد كان عبداللّه بن مسعود مؤسّس مدرسة الفقه والحديث في الكوفة حيث كان يجلس للناس ويعلّمهم مبادئ الدين منتقداً الخليفة عثمان، فطبّق عليه عثمان عنف الدولة بضربه ضرباً شديداً. وكانت هذه السياسة الجديدة صدمة للصّحابة الذين رفع عنهم عثمان «الحصانة».
يُعتبر هذا الكتاب حول الفتنة الكبرى كتاباً ثوريّاً ومجدّداً في التاريخ الإسلامي

ونشأت حركة المعارضة الدينيّة لعثمان داخل فئة القرّاء أي المتعمّقين في قراءة القرآن وتفسيره وتدوينه. كما تكتّل الصحابة في المدينة كعليّ بن أبي طالب والزّبير بن العوّام وعائشة زوجة الرّسول ضدّ سياسة تهميش الصّحابة وتغييب «المبادئ الإسلاميّة» وتعويضها بالتقاليد الما قبل إسلاميّة. وكانت فكرة تطبيق المبادئ القرآنيّة أهمّ سبب لمقتل عثمان بن عفّان من قبل الثوّار.
يُعتبر هذا الكتاب حول الفتنة الكبرى كتاباً ثوريّاً ومجدّداً في التاريخ الإسلامي، حيث درس حركة انقسام أبرزت هشاشة الخلافة الأولى وفئة الصحابة. فقد ظهرت الاختلافات داخل قريش بين فئة من أهل السّابقة والقدمة، وفئة من الطّلقاء أفادت من صعود عثمان إلى سدّة الحكم. كما حاولت فئة الصحابة المحافظة على المبادئ الإسلاميّة، ونشأت فئة جديدة في الأمصار، خصوصاً في الكوفة دافعت عن القرآن.
ظهرت مقدرة هشام جعيّط على قراءة المصادر ومقارنتها ببعضها، كما وضّح دور الأمويين في تطوير الدولة والمحافظة على الأمّة الإسلاميّة رغم كلّ الحملات التي تعرّضوا لها.

* كاتبة ومؤرّخة تونسية