لسنوات طويلة، ظلَّ الأدب الصومالي شبه غائب عن الأدب العربي، على عكس آداب كثير من البلدان الأجنبية البعيدة، ثم اقتصر حضوره على كاتب واحد مترجم، هو نور الدين فارح، عبر روايته «خرائط» بشكل خاص، التي يمكن قراءتها في ترجمتين. يحتاج الأمر إلى بحث أعمق، غير مضمون النتائج، للوصول إلى أدب مكتوب بالعربية من بلاد القرن الأفريقي، التي شهدت، كغالبية بلدان القارة السمراء، ظروفاً صعبة تجعل من مجرَّد التفكير في الكتابة، أمراً غير وارد لدى من يمتلكون الموهبة من الرجال المشغولين بالحروب، وحددت موضوع هذه الكتابة عند من نجح منهم في الفرار إلى المنافي.تلك هي حال الكاتب صالح ديما في روايته «مواسم القرابين» (دار الآداب) بعد حصولها على «جائزة أسماء صديق المطوّع للرواية الأولى». يبدو أنّ ما يسرده ديما في هذه الرواية نسخة مبكرة تعود إلى مطلع التسعينيات لما شهدته بلدان عربية عدة بعد ذلك بأكثر من عقدين، من حروب أهلية وتدخلات خارجية ومحاولات تقسيم، وما رافقها من مذابح وموجات نزوح ولجوء، شهدت استقبالاً لهم وتقديم تسهيلات من قِبَل دول غربية، في مقابل إعراض وتشديد وملاحقة وترحيل من قِبَل دول عربية.


ينطلق الراوي مرقان في سرده من مدينته كيسمايو، الواقعة إلى الجنوب من العاصمة مقديشو، التي تحتوي على مزيجٍ سكاني متعدد الأعراق والثقافات، يضمُّ عائلات عربية تعود أصولها إلى قبائل جنوب شبه الجزيرة العربية، وهنوداً وصلوا إلى الشاطئ حاملين معهم تجارتهم وعاداتهم، وأفارقة من أهل تلك البلاد وجوارها، بالإضافة إلى عائلات إيطالية، أتت مع الاستعمار الذي اقتُطِع له الجزء الجنوبي من البلاد، وبقيت بعد رحيله، وهي تسيطر على مزارع الموز وتجارته. يتذكر مرقان ألعاب طفولته ولهوها الكثير مع رفاقه، ولكنه يتذكر أيضاً ما كان مقدمات للحرب والنزوح الذي تلاها، ومن ذلك سقوط قذيفة أمامه أودت بحياة محمادي، أعز أصدقائه، وقذيفة أخرى اقتلعت جد رفيقة صفّه فارين، هندية الأصل، مع الشجرة الغريبة التي كان يجلس تحتها وقد جلبها معه حين جاء من بلاده.
شكَّلت كينيا القريبة محطة أولى للهاربين من الحرب، في البلد الذي ظلَّت الانقلابات العسكرية وسيلةً للوصول إلى الحكم فيها، وتهديد سلطة العسكر من قِبَل عسكر آخرين سبباً للقتال. حلَّ مرقان وعائلته الصغيرة؛ أمه، أخوه الكبير مرسل، وأخوه الصغير الأصمّ، في مخيم داداب قرب نيروبي، حيث تقدَّموا من داخله بطلب لجوء إلى الولايات المتحدة الأميركية، وقد تمَّ قبوله. أمر عارضه ربُّ الأسرة الذي يعمل في مدينة جدة السعودية، الذي سعى إلى نقل عائلته إلى هناك بصورة قانونية، لكن تعذَّر عليه ذلك، فكانت الأم تشتري المعاطف الثقيلة لأولادها تحسُّباً للسفر القريب إلى أميركا، في حين أن الأمر الأرجح هو الانتقال إلى «أرض الأنبياء» وإن بطريقة غير شرعية، في صورة بليغة عن التشتت والضياع الذي عاشته تلك العائلة، كصورة مصغَّرة عمَّا عاشه شعب بأكمله.
وككل عائلة، كان هناك الفرد الذي يغرِّد خارج السرب، وهو في هذه الحالة الأخ الأكبر مرسل. في خضمِّ تشتت عائلته بين الشرق والغرب، وبين الصحراء والثلوج، قرر مرسل البقاء في كينيا، وتدبير أموره وإيجاد مكان له ضمن نسيج الفوضى الذي يشكِّل نظام الحياة في تلك الدولة أيضاً، بل تجذير وجوده فيها عبر الحصول على جنسيتها للتخلّص من مضايقات الشرطة بحق الأجانب، والرشى التي تفرضها عليهم، خصوصاً بعد توسُّع تجارته وامتدادها من نيروبي إلى مومباسا، وليكون كامل الحقوق كذلك، بما أنَّ له مطامح سياسية. مع الإشارة إلى أن هذا النجاح العملي لمرسل هو حالة خاصة، تعود إلى حذقه الشخصي الذي سيبرز أينما كان، لكن في مقابله هناك مثلاً الخريج الجامعي والشاب الواسع الاطلاع الذي يعمل نادلاً في مقهى، والأم نفسها التي كانت صحافية في بلدها، ولكنها اضطرت إلى افتتاح محل عطور في نيروبي من أجل إعالة عائلتها.
حروب أهلية وتدخلات خارجية ومحاولات تقسيم ومذابح


في جدة، يندمج مرقان سريعاً في الحياة الاجتماعية التي تتشابه مع نمط حياتهم في كيسمايو. يكمل تعليمه المدرسي والأكاديمي، يعقد صداقات مع أقرانه من المهاجرين ومع أولاد جدة أيضاً، ويجد عملاً يزاوله بعد مساعدة من أحد الشيوخ الذي يمتلك شركات ومراكز تعليمية في السعودية والصومال وبلدان أفريقية أخرى. يتحدث مرقان اللهجة السعودية ويلبس اللباس التقليدي، حتى يظنّه كل من يراه من أهل البلد، قبل أن يغيّر معاملته له عندما يدرك أنّه ليس كذلك: «أنقلب في لحظة من شخص مسؤول ومحترم في أنظارهم، حتى أكاد أصير مهرجاً في سيرك، تلتفّ حوله جماهير ترتفع قهقهاتها وتعلو أصوات ضحكها». يقع أخيراً ضحيةً لنظام «السعودة»، الذي اتبعته السلطات لتوظيف المواطنين في الوظائف الإدارية تحديداً، على حساب غيرهم من جنسيات أخرى، بعدما استفاد من قرار ملكي سابق منح المقيمين غير الشرعيين صفة الإقامة الشرعية، فيجد مرقان نفسه مضطراً إلى أن يعلن: «لكن أنا لست الوثائق الإدارية، أنا إنسان. وأنا كما أنا، لا كما تعلن تلك الحزمة من الأوراق».
تبدو جذرية الأزمة الصومالية المزمنة، التي ما زالت مستمرة حتى اليوم بأشكال شتى، في الانقسام الذي ترسَّخ بين أهل البلد الواحد، وهي النقطة الأخطر في أي أزمة مماثلة، عبر علاقة مرقان بميرسي، الفتاة التي تصرُّ على أنها من «أرض الصومال»، في إشارة إلى الجزء الشمالي من البلاد الذي كان خاضعاً للاستعمار البريطاني، وتعرّض للتمييز والعنف خلال مدة حكم الرئيس العسكري سياد بري، التي امتدت بين 1969 و1991. تجمع بين الشاب الجنوبي والفتاة الشمالية علاقة حب، تعيد طرح كل الأسئلة القديمة، التاريخية والسياسية والاجتماعية، في ضوء جديد، ويسعيان عبرها إلى ردم كل الشروخ بينهما كي يتحقق ارتباطهما، في إشارة إلى أن الحب وحده يمكنه إلغاء كل عوامل الانقسام، وتحقيق التلاقي والاتحاد.