في مطلع الألفية الثانية، وبعدما حُيّدت مصر عن الأزمة الدائمة في الشرق الأوسط، قرّرت ثلة المهووسين التي تدير شؤون الكوكب من واشنطن، أنّه لا بدّ من إسقاط العراق كي تنجو المدلّلة «إسرائيل». ارتأت الإمبراطورية حينها أن تموّه حربها المجرمة باستدراج رعاياها والعالم إلى دائرة النوازع الوحشيّة للبشريّة عبر تشييد جدار هائل من ثنائيات الهويات الثقافية المتنازعة: عالم «نحن» مقابل «الآخرين»، «معنا» أو مع «الإرهابيين»، وهم الفسطاطين المتناقضين حكماً، وصراع الحضارات المحتّم. وقتها، رُسمت خطوط الانقسام بدقة: غرب مقابل الشرق، وبيض ضد الملونين، ومسيحيون ويهود ضدّ المسلمين، وشركاء في التحالف «الدولي» العسكري لإسقاط العراق ــــ أي تجمع مرتزقة الإمبراطورية الأميركية ـــ ضد الإرهاب. هكذا أصبح عادياً أن يُوقف بريطاني في مطار أميركيّ لأنّ لون بشرته ليس أبيض، أو يعامل فرنسي بجلافة لأن بلاده لم تنخرط (رسميّاً) في التحالف الدولي، أو يفقد مواطن يحمل جواز سفر أميركيّاً ووُلد في الولايات المتحدة، فرصةً للدراسة أو العمل لأن اسمه ذو إيقاع عربيّ. لم تتغير الأمور كثيراً من حينها، لكنّ تحول الأولويّات بسبب اللحظة الأوكرانيّة، انعكس لهنيهة سيولةً في ترسيم خطوط الانقسام، ليدخل الروس ونصف من كانوا أوكراناً هنا، فيما أُلحق بقية الأوكران غربي دونستك إلى فضاء «الذين يشبهوننا»... ثم كان السابع من أكتوبر 2023.
(shenby g ! ــــ الولايات المتحدة)

لقد أيقظ سيل الدم الفلسطيني المتدفق في غزة الملايين حول العالم من غفلة عمل اللوبي الصهيوني المسيطر عبر ضفّتَي الأطلسي وبمنهجيّة صارمة على تمديدها لعقود طوال، ووجد كثيرون أنّ ثمة خطوط انقسام حقيقية تباين بين البشر، لكنّها مختلفة بالكليّة عما صوّرتها النخب الحاكمة من قبل. أنت اليوم إما مع الإبادة والعنصريّة والإمبريالية أو ضدها، بغض النظر عن جنسيتك، أو عرقك أو لون بشرتك أو معتقدك الديني. فالعربي أو المسلم يمكن في هذا السياق أن يكون شريكاً للصهيونية، تماماً كما يحق للأميركي والبريطاني أن يكون معادياً لسياسات الكيان العبري. لقد أصابت إعادة الترسيم هذه الإمبراطورية ومدلّلتها بالذّعر، وأدخلت المشروع الصهيوني في نفق سن اليأس، وفرضت نفسها حدوداً جديدة للانقسام.
البروفيسور المعروف إيلان بابيه، المؤرخ اليهودي الذي ينتمي إلى تيار المؤرخين الجدد الذين أعادوا كتابة تاريخ الصهيونية، لمس بنفسه هذا الأسبوع هذه الترسيمات الجديدة عندما وصل قادماً من لندن إلى ديتروت (ولاية ميتشغان) في الولايات المتحدة بهدف إلقاء محاضرات مبرمجة حول ما يحدث في غزّة، إذ احتجزه محقّقو مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي لساعتين، وأجروا معه تحقيقاً معمّقاً تضمّن أسئلة حول علاقته بـ «حماس»، وعمّا إذا كان يعدّ العمليات العسكريّة الإسرائيلية في غزة إبادة جماعية وتصوّره لنهاية «الصراع»، وطبيعة علاقاته بمعارفه من العرب والمسلمين في الولايات المتحدة. كما صادروا هاتفه الشخصي وأخذوا نسخة من محتوياته قبل إعادته له. ويبدو أن المحققين كانوا أثناء استجواب البروفيسور على اتصال بجهة ما - يعتقد أنها إسرائيلية - أُبلغت بالتفاصيل، قبل أن يسمح بإطلاق سراحه.
وكان بابيه (مواليد 1954، والأستاذ في جامعة «إكستر» في المملكة المتحدة) قد اتخذ مواقف علنية معادية لحرب الإبادة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتحدث مراراً عن الطابع العنصري للمشروع الصهيوني في فلسطين، وقبل دعوات من جهات طلابية ومؤسسات تطوعية للمشاركة في أنشطة مؤيدة للفلسطينيين طوال مدة الحرب، وأعدّ في الأسابيع الأخيرة قبل سفره النسخة النهائية من كتاب جديد له يرصد النفوذ الصهيوني على جانبَي الأطلسي يعتقد أنّه أصاب بعض الجهات بالقلق لمضمونه وتوقيته معاً (يصدر الكتاب في حزيران/ يونيو المقبل)... هذه كلها دفعت القائمين على إدارة خطوط الانقسام في الولايات المتحدة إلى التشكيك بولائه والتحقيق معه لدى وصوله.
يدعم بابيه تياراً يجمع مثقفين غربيين وفلسطينيين ويهوداً يتبنى حلّ «الدولة الواحدة» ويؤيد بصخب جهود المقاطعة الأكاديمية للمؤسسات ومراكز البحث الإسرائيلية، وقد أبلغ متابعيه عبر فايسبوك بأنّ إجراءات السلطات الأميركية التي تُتّخذ تحت ضغوط اللوبي الصهيوني المؤيد للكيان العبري، لن تثنيه عن مواقفه، معتبراً التحقيق معه في المطار أوضح إشارة على تأزّم الكيان العبري وداعميه، وأنّ «النخب المتصهينة تغرق في طوفان من الذعر والقنوط».