معرض استعاديّ لعميدة الفن التجريديّ اللبناني نحتاً ورسماً وخطّاً سلوى روضة شقير (1916- 2017) تحتضنه «الجامعة اللبنانية الأميركية» LAU حتى العاشر من أيار (مايو ) تزامناً مع احتفالها بالذكرى المئوية لتأسيسها. الحدث الذي يُقام بالتعاون مع «المعهد العربي للمرأة» في مبنى Cezairi التابع للجامعة في بيروت، شهد أيضاً إزاحة الستار عن منحوتة كبيرة للمحتفى بها في حديقة «أورم غراي» في حرم الجامعة، كما صدر كتاب بالإنكليزية عن إرث الفنانة الكبيرة الراحلة حمل توقيع ياسمين نشابة طعان (منشورات «خط»).هذا ‏المعرض الاستعادي يركّز على الفنّ التصميميّ الذي احترفته الفنانة أيضاً، إذ تعلمت تقنيات صناعة المينا والمجوهرات في الولايات المتحدة لمدة عامين قبل عودتها إلى لبنان، حيث عرضت أعمالها بانتظام في بيروت، ودرّست النحت في الجامعة اللبنانية بين عامَي 1977 و1984، وتبنّت وسائط عدة وتوسّعت في ممارستها لتصمّم بعض الملبوسات وأغلفة الكتب والسجاد، والنوافير وبرك المياه، والأدوات المنزلية والحلي. ولشغفها، صمّمت كلاً من أعمالها بما يجعله يحمل إمكانات نضجه وتحولاته، ويحيله مؤثراً على الصعيد الاجتماعي عن طريق تحفيز الجمهور على رؤية انعكاسه الذاتي في هذه الأعمال.


الفنانة التي عاشت قرناً كاملاً جمعت في أعمالها الشرق والغرب وانتمت عميقاً إلى الحضارة العربية، وإلى الشعر، لسان العرب الذي استلهمت منه بناء القصيدة المقفّاة لإنشاء منحوتة الاصطفاف التراكبي، بأسلوب تصوّفي تجريديّ هو المدخل إلى فهم خصائص عالمها النحتيّ الهندسيّ شكلاً وتركيباً، فمنحوتاتها تشبه القطع المركبة يضمّ بعضها البعض الآخر، ويمكن تفكيكها أو جمعها في بناء واحد. لقد سبقت عصر ما بعد الحداثة فنياً، ولامست فنون التجهيز التي ترتبط بالرياضيات التجريديّة من دون إخفاء العلاقة بالواقع. يمكن تقسيم أعمالها إلى فترات زمنية ذات عناوين، فبين عقدَي الخمسينيات والستينيات، كان «مسار الخطّ»، ‏تلاه ‏بين السبعينيات والتسعينيات، أي فترة الحرب الأهلية في لبنان، ما يمكن تسميته بـ «الثنائيات» أو «المثنويات» التي كانت على شكل قطعتين متقاربتين ترمزان إلى عودة اللحمة بين المناطق التي شطرتها الحرب إلى قسمين. أمّا المرحلة الثالثة والأخيرة، فاشتغلت فيها على «القصائد» المُستلهمة من القصيدة العربية. وأعمالها كلّها سابقة لزمنها تصوّراً وتكويناً وفرادةً وتنوعاً في المواد (من خشب البلوط إلى البرونز). شقير ‏التي تلقّنت حرفتها الفنية في محترفَيْ عمر الأنسي ومصطفى فروخ، وهما من روّاد الفن الواقعي في لبنان، افترقت ‏عن واقعيّة معلّميها ‏ونزعت ‏باكراً إلى التجريد بفضل استيعابها ‏الحداثة الغربية أثناء دراستها الفلسفة في الجامعة الأميركية، ‏ثم التحاقها بالمدرسة الوطنية للفنون الجميلة في باريس ومن بعدها «أكاديمية دو لاغراند شومير»، متأثّرة في تلك المرحلة بالفنان الهولندي موندريان، وصولاً إلى امتلاك رؤيتها الخاصة وابتداعها «القوافي البصريّة» التي تعدّ التيمة الأساسية التي تطبع معظم أعمالها عبر الواحد في المتعدّد.
في مجموعتها المشهورة «القصائد»، تتشابك منحوتاتها المصنوعة من الخشب والألمنيوم والنحاس والطين والألياف الزجاجية، في محاكاة بصرية لبنية الشعر الصوفيّ وتركيبه حيث المقطع الشعريّ قائم بذاته ومندمج في الوقت عينه بالقصيدة. أمّا سلسلة «ثنائيات»، فتتألف من أزواج من المنحوتات الصغيرة بالنحاس والألمنيوم والزجاج والطين المشوي والخشب. الأشكال الثنائية، تتعانق وتتشابك كأنّها مستلهمة من فيزياء الكمّ وعلم الأحياء الجزيئي، لتصوّر العلاقة بين الثبات والانسياب، التوليد والتحريف، اللحظة واللانهائيّ. خلال الحرب الأهلية، غابت عن المشهد التشكيلي وانصرفت إلى تنفيذ عدد من تلك القطع الثنائية التي تكتنف توقاً إلى الاندماج بعد انقسام وتبعثر بفعل الحرب، لتتحد في بنية واحدة، رغم أنّ شيئاً ما يحول دون تلك الوحدة.
أمضت شقير معظم القرن العشرين في النحت والرسم وتصميم الأغراض الزخرفية بنَفَس تشكيليّ ابتكاريّ مثير للدهشة، فهي المرأة العربية الأولى التي احترفت النحت واقتحمت بجرأة ميادين ملغّمة. نحتت كأنّها تكتب قصيدة عمودية مقفاة، ذات نَفَس صوفيّ تجريديّ في الوقت نفسه. انتقلت سريعاً من معقل الفن المحافظ إلى الطليعية، تحرّكها دوماً أسئلة حول طبيعة الواقع والكون في معادلات هندسية ولونية، كأنّها إزميل العقل في جسد الرؤى الصوفية. نفرت من الفكر الاستيعابيّ التغريبيّ الذي كان يمثله أمثال شارل مالك وموسى سليمان، رافضة مزاعم التفوق الثقافي الغربي التي روّجها أساتذة الأدب والفلسفة في الجامعة الأميركية في بيروت حيث درست الفلسفة. آمنت بأنّ المعنى الفني ملازم لإطاره الاجتماعي والبنيويّ والسياسيّ، فلكل حضارة هدفها الخاص، وأثبتت بفنّها أنّ العرب طوّروا فهماً فريداً للوجود يتجاوز الخضوع للقيود الزمانية والمكانية ويمكنه الاندماج في الحداثة. تمرّدت سلوى روضة شقير بشخصيّتها القوية، المثقفة والمبدعة، على الخضوع لأحد الخيارين في تلك الفترة: الاستيعاب أو الانعزال، فلا هي ماشت الفكر الاستيعابي على طريقة أساتذتها في الجامعة الأميركية، ولا رضيت بالانعزال والاستسلام، مؤكدة على أنّ الحضارة العربية الإسلامية تتفق مع احتياجات المعاصرة العالمية، وكسبت بفنها هذا الرهان.
رفضت مزاعم التفوّق الثقافي الغربي التي روّجها أساتذة الجامعة الأميركية في بيروت


لدى سفرها إلى باريس في تموز (يوليو) 1948 لمتابعة دراساتها الفنية، ظهرت في رسومها (أعمال الغواش وتلك التخطيطية) زوابع من الحركة والتفاعل والاستكشاف والابتعاد عن الأسلوب الواقعي. ومن المحطات المهمّة في مراحل إعدادها الفني دراستها الرسم لدى الفنان الكبير فرنان ليجيه رغم رفضها تجاوز المنظور الواقعي كلّياً نحو الأشكال المختزلة. استخلصت جوهر العناصر التصويرية المتعلقة بالأشكال الهندسية والحروف العربية في لوحاتها وأخضعتها لتحويلات جذرية متنوعة، لونية وتجزيئية، فكانت بدايات أسلوبها في بناء «الوحدات» الذي استخدمته لاحقاً في أعمالها النحتية المركبة. تناولت ببساطة عناصر ثنائية البعد، مثل المستطيل، وجزّأتها وفقاً لحركات غير منتظمة بل تكرارية، حتى بلغت بحماستها المتأججة الأعمال ذات الأبعاد الثلاثة وحتى الرابعة. أخضعت منحوتاتها لاختبار إمكانات لا نهائية.
أسهمت سلوى روضة شقير في الفن العالمي أيضاً، ففي عام 1955 مثلاً، قامت بجولة في أكاديميات الفنون الأميركية، ولا يزال ارتباطها بالحداثة الأميركية يستدعي الدراسة والبحث. وفي عام 1969 استضافتها الحكومة الفرنسية لتقيم سنة كاملة ولتتلقى بعدها دعوة من «صالون أيار (مايو)» الباريسي دعوة للمشاركة فيه، وأقيم لها معرض استعاديّ في «متحف تيت للفن الحديث» اللندني عام 2013، ونالت عدداً من التكريمات في لبنان ومصر والعراق وبعض دول الخليج. أما المعرض الاستعادي الحاليّ، فمحطة تكريمية إضافية لفنانة تستحقّ متحفاً خاصاً باسمها.

* معرض تكريمي لسلوى روضة شقير: حتّى العاشر من أيّار ـــــ مبنى Cezairi (الجامعة اللبنانيّة الأميركيّة ـ بيروت) ــــ للاستعلام: 01/786456