◄ محمد عيتاني... المؤرخ الأدبي لتحولات بيروت
لا نكاد اليوم نعثر في مكتبات بيروت كلّها على عمل واحد لمحمد عيتاني (1921-1988)، وهو كاتب ملحمة بيروت وتحولاتها، ولا سيما في كتابه الأبرز «أشياء لا تموت» (دار الفارابي ــ 1987) وهو المؤرخ الأدبي للمدينة المستعصية في حركة انتقالها المأساوي من الحالة القروية إلى بؤرة البنايات الحديثة والمدينة الإسمنتية الهجينة. التقط محمد عيتاني ببراعة تحولات المدينة التي غدت بؤرة لتوليد المال وتوالده، وبيع زخرف الأزياء والفنون والصحف وشتى الصفقات حيث تتوالد وتتصارع وتتفاعل الأفكار والأموال والنزعات الثورية، وحيث يمتزج كل ما هو زائف بكل ما هو حقيقي. في أقاصيص محمد عيتاني كلّها الصادرة عن «دار الفارابي» من «تحت حوافر الخيل ومتراس أبو فياض» (1974) و«مواطنون من جنسية قيد الدرس» (1975) وانتهاء بـ«حبيبتي تنام على سرير من ذهب» (1986) حنين إلى بيروت القديمة، ومحلة رأس بيروت بالذات (مساحة ريفية منفتحة على البحر وقوارب الصيادين). حنين هو نفسه إدانة من موقع الشيوعي الذي كانه للرأسمال الذي يطحن المساحات الخضراء ونفوس الفقراء، وكان عيتاني من الموقع التقدمي ذاته قد أشرف على ترجمة أولية لكتاب ماركس «رأس المال» (مكتبة المعارف ــ 1978-1981) وكتاب بعنوان «النضال المسلح في الإسلام» (دار العودة ـــ 1981). في رسالة قديمة لصديقه الراحل محمد دكروب، يعبّر عيتاني عن هذا الحنين اليوتوبي لبيروت: «كنت أرى نفسي مشدوداً إلى أيام الطفولة تلك، وإلى جدران تلك المحلة وبساتينها وسواحلها وأشجارها وفلاحيها وطرائفها، إلى منارتها البيضاء المقلّمة بالأسود، وأبراج حمامها الشامخة فوق أشجار المقساس، طبّالها الذي تطارده كلاب الفرنسيين، ومؤذنها الذي يشمّر عن ساقيه عند صعوده إلى المئذنة»: أدب محمد عيتاني يبقى ضرورياً لكل عاشق لبيروت، للصيادين والباعة و«الزكرتية» والقبضايات ومؤجري الدراجات الهوائية والشعراء الشعبيين والنساء الفاتنات «لأن ترابها (بيروت) وأغصان توتها الغبراء وجذوع تينها التي رسمت عليها حدود قلوبنا صارت شيئاً واحداً هي وأحلامنا وذكرياتنا وآثار الجراح في الأقدام منّا والركب».

شيلي تريغونينغ ـــ «الكاتب» (زيت على كتّان ـــ 152 × 122 سنتم ـــ 2019)


◄ منى جبور...
سيمون دوبوفوار لبنانية

«هذا الجسد يعذبني. يعذبني ثدياي والثوب الذي ينسدل فوق عضوي الأنثوي. فأنا أكفر بهذا الجسد الهزيل الجامد أمام المرآة... أكفر بهدف نفور الرمّانتين من صدري، فأنا أكره أن يرضع فم منهما حليباً». تشبه منى جبور (١٩٤٣-١٩٦٤) تلك الورود الربيعية الهشة التي تزهر في الشمس وتقتلها لفحة من هواء: كان الشاعر الراحل أنسي الحاج أول من اكتشف بذور الكتابة في ابنة بلدة القبيات الشمالية، فكان أول من نشر لها مقاطع أدبية في «النهار» (١٩٥٧) لتسهم من بعدها في الصفحات الثقافية لمجلة «الحكمة» وصحيفة «الحياة». ماتت جبور عن روايتين لا ثالث لهما: «فتاة تافهة» (١٩٥٦) و«الغربان والمسوح البيضاء» (١٩٦٦) وقد صدرتا عن «دار ومكتبة الحياة» (بيروت) في طبعة أولى نفدت بسرعة، ويبدو الحصول عليهما اليوم بنسخة ورقية ضرباً من المستحيل. التيمة الأساسية في روايتي جبور هي الأنوثة الصعبة في مجتمع بطركي يحارب المرأة في كينونتها ويقولبها كماكينة للجنس والنسل: ندى، بطلة «فتاة تافهة»، التي تذكرنا بلينا فياض بطلة ليلى بعلبكي في «أنا أحيا»، تحمل منذ البداية لواء الرفض لهذه الأنوثة الاختزالية وتواجه المجتمع بخطاب أنثوي شجاع سبق الكثير من الحركات النسوية اليوم، وبضمير المتكلم في جمل هي أقرب إلى الصواعق المتفجرة كما في افتتاحية الرواية: «القزم المكوّم في الزاوية يمط شفتيه قائلاً: العلويون يفلحون على المرأة... والمعلّم ينبح: بلا جدال، المرأة مخلوق ضعيف الشخصية والإرادة، والمرأة مخلوق يكمله الرجُل، ومن واجبها أن تخضع له. كذاب. كذاب هذا الوقح. سأجادل... سأخرج، فأنا لست ضعيفة لأتعلم. ليتني أقوى على إظهار البرهان في تحطيم هذا المقعد على رؤوس التلامذة وفي مرمغة أنف المعلّم بحذائي لأريه أنني كيان مستقل. جررت النظر إليه، فإذا على أسنانه خيوط صفراء، والبصاق يفور من شفتيه، وسخ... خنزير». وفي «الغربان والمسوح البيضاء»، تتابع جبور ثورتها النسوية، إذ تحول البطلة «كوثر» الرواية إلى سجل للخطاب الواعي واللاواعي عن تعقيدات علاقات المرأة بالرجل الذي يريد أن يجعلها مكملاً لنقصه، وموضوعاً لرغبته من دون أن ترتقي هي الأخرى إلى مقام «الذات» القادرة على الحب والمعرفة والاستقلال. «أنا أهرب أهرب أهرب عبر كل حرف وكلمة ونظرة... قبل مؤلفي الأول، كنت أدرك أن تفجيراً ما سيكون خلاصي الوحيد في الحياة... لكني لم أكن واثقة أنه الأدب: «يقال إنّ منى جبور قد أنهت حياتها منتحرة، والبعض الآخر يعزو تلك الوفاة إلى اختناق بتسرّب للغاز، ومهما يكن، فلو قدر لهذا المشروع الروائي النسوي أن يكتمل، ربما كنا اليوم أمام «سيمون دو بوفوار» لبنانية، إذ بدأت الفتاة الشابة مسيرتها الأدبية من حيث انتهى إليه كثير من الروائيين المكرّسين اليوم.

◄ عبد المطلب الأمين...
صورة الأب ونقيضه

لم يكن عبد المطلب الأمين (١٩١٦-١٩٧٤)، الديبلوماسي والحقوقي والشاعر وابن العلامة الراحل محسن الأمين، يكترث بحفظ شعره أو جمعه في مصنّف أو ديوان. لذا إنّ الكثير من قصائده السياسية والوجدانية والغزلية والخمرية صارت في ذمة التاريخ وبعضها نُسب غفلة إلى غيره من الشعراء الكبار (مثل قصيدة «غنّت فيروز مغرّدة» التي تنسب إلى الشاعر نزار قباني). ولولا جهود من الصحافي السوري هاني الخيّر الذي عثر على مقطوعتين شعريتين في أرشيف المكتبة الظاهرية في دمشق، كان الأمين قد نشرهما وهو في الخامسة عشر من عمره في جريدة «الناقد» الدمشقية سنة ١٩٣١، عندما كان لا يزال طالباً في «مدرسة التجهيز الأولى» في دمشق، لما كان ممكناً تتبّع مسيرة الأمين الشعرية منذ بواكيرها الأولى، ليُعنى نجل الشاعر، محسن الأمين، من بعدها بتجميع سيرة والده وأشعاره في كتاب «ديوان الشاعر عبد المطلب الأمين» في إصدار عن «جمعية إحياء تراث العلامة السيد محسن الأمين» (٢٠١٥). في أشعار عبد المطلب الأمين، نستشف تلك الروح القلقة التي طبعت تلك الكوكبة من أبناء المراجع الدينية الذين سيطلق عليهم تسمية «الشيعة الشيوعيين» لانخراطهم في النضال الطبقي والجماهيري وتطعيمه بالروح الكربلائية المفعمة بالرفض والثورة عبر التاريخ. عاش عبد المطلب الأمين نزوات القلم، فطُرد من سوريا (التي حصل على جنسيتها) بعد ثورته على انقلاب حسني الزعيم وكتب زاوية في جريدة «النداء» يوقعها تحت اسم «القاضي الفاضل». وإذا كان الشعر الذاتي صدى لأحوال النفس، ففي الوطنيات والمراثي هو ظل لوالده المرجع، لكنه في الشعر الوجداني والذاتي يرسم لنفسه صورة هي أقرب إلى الفرويدية في قتل هذا الأب. كما أن الطرافة التي طبعت حياته لا نجد لها حيزاً كبيراً في هذا الشعر، إذ تروى عن الأمين هذه القصة: عام ١٩٤٤، عُيّن الأمين قائماً بأعمال السفارة السورية لدى الاتحاد السوفياتي. بعد ثلاثة أشهر من تعيينه، طلب مقابلة وزير الخارجية مولوتوف الذي عُرف بالرجل ذي المطرقة الحديدية من دون استجابة لطلبه. وأمام إصراره، وافق مولوتوف على مقابلته، وكان عابساً متجهماً وسأله عن السبب من الزيارة. أجاب الأمين بابتسامة: «لقد جئت إلى هنا لأنقل إليكم باسمي وباسم حكومتي وباسم الشعب العربي السوري و لأطمئنكم وأطمئن حكومتكم وشعبها بأنه ليست لدينا أيّ مطامع استعمارية في الاتحاد السوفياتي». انفجر مولوتوف ضاحكاً حتى كاد يغشى عليه، ثم طلب تأجيل كل مواعيده، وأشعل سيجارة وهو يبتسم ابتسامة عريضة ليسأل الأمين: «ما هي قصتك؟»، فيجيبه الأخير: «إن كان ما قلته لك يدعو للضحك، فلماذا تراقبني الأجهزة الأمنية السوفياتية صباح مساء ولا تترك لي فرصة التنفس؟».

◄ فؤاد كنعان... الناسك العابث
كان فؤاد كنعان (١٩٢٠-٢٠٠١) شجاعاً بقول الجديد، وقحاً بحق المألوف، متمرداً، عبثياً في كل الأوقات، ضعيفاً وهشّاً حيال كل ما يتعلق بالذاكرة والحب، والتفاصيل تكاد تكون هاجسه: ابن بلدة رشميا البقاعية، سحرته كتابة القصة منذ نعومة أظافره. نشرت جريدة «الرابطة» له قصة بعنوان «الشهيدان» ولمّا يبلغ الخامسة عشر. كما نشر بعض القطع الأدبية في مجلة «المكشوف» عام ١٩٣٧، لتنال قصصه المنشورة إعجاب الأديب مارون عبود الذي شجعه وكتب مقدمة مجموعته الأولى «قرف» الصادرة في عام ١٩٤٧ عن «دار المكشوف». كنعان الذي التحق بـ «المعهد الحقوقي الفرنسي» عام ١٩٣٩، ثم تولى تحرير مجلة «الحكمة» (١٩٥١-١٩٥٨) وكانت له زاوية خاصة في«لسان الحال» بعنوان «على رأس اللسان» بتوقيع «لسان» وزاوية أخرى في جريدة «الاتحاد اللبناني» بعنوان «حبر على ورق»، يعتبر اليوم في عداد المنسيين في الأدب اللبناني. صدرت آخر مجموعاته القصصية بعنوان «مديرية كان وأخواتها» عن «دار النضال» سنة ١٩٩٩، ونفدت كل طبعات مجموعاته السابقة مثل «أولاً وآخر وبين بين» (دار الفكر الجديد ــ ١٩٧٧) و«على أنهار بابل» (دار لحد خاطر ـــ ١٩٨٧) و«كأن لم يكن» (دار الجديد ـــ ١٩٩٢). استعادة كتبه وأدبه اليوم أكثر من ضرورية لأن هذا الأدب قد أطلق الرصاص بأسلوب عدمي وسخرية لاذعة متعرضاً للأعراف والقوانين ومهرّجاً في «سيرك» الوجود في وجه كل أشكال «المؤسسة»: ضد المؤسسة الدينية حين لم يرَ فيها جامعاً يجمعها بعالم اليوم لفرط ما غابت عن هموم الناس واهتماماتهم، وضد الزواج حين يتحول إلى «مشروع» روتين وكآبة وازدواجية، وضد الحرب باعتبارها «حرب عملاء وحرب باعة، باعة جماجم وباعة أوطان، وباعة كذب. وأما القضية، فهي المراحيض»، إضافة إلى حربه الشعواء على الفساد الأزلي في الدولة التي لخّص أحوال مغارة علي بابا فيها بصرخة مطعون: «قرفتُ أن أكون لبنانياً، قرفت. أريد أن أبعد... لا حياة لي في بلادي ما لم أبع وأشترِ وأسمسر وأهرِّب وأعكرت وأزوّج أمراء!».

◄ صفوان حيدر...
دونكيشوت الحمرا ومقاهيها

«الدولة لم تجد له مكاناً في دير الصليب فألقته في السجن. وحين أعيد إلى المستشفى زرناه أنا وشربل. بدأ كلامه عادياً، مجارياً إيانا، ثم تحوّل، بقفزات متتالية، إلى الكلام عن مؤامرات ومخابرات وجواسيس كمنوا له وتمكّنوا منه... هكذا كان يحدث حين نلتقيه خارج المستشفى وخارج السجن: يبدأ يتكلم مثلنا ثم ينحرف به مرضه، فيصير يحكي عن مغامرات تُرفع فيها السيوف وتصهل الأحصنة كما لو أننا في حرب تجري في العصر الجاهلي»، هكذا وصف الروائي اللبناني حسن داوود الأيام الأخيرة لصفوان حيدر (١٩٥٠-٢٠٢٤)، الذي رحل بصمت في مستشفى الأمراض النفسية والعصبية الذي انسحب إليه منذ سنتين. رحيل لا يليق بالحضور الصاخب لصاحب «أورفليس» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـــ ١٩٨٢) الذي صدّره بصورة مضببة له أثناء دراسته العليا في الآداب والفلسفة في «جامعة برلين الحرة» (١٩٧٦-١٩٨٢) كتب تحتها: «هوذا رجل ثلوج هملايا... يجرّ ظَهراً وتحت الأمطار في شوارع برلين، غرباً وشرقاً، الشمعة في اليد، واللهفة في القلب، باحثاً عن أورفليس، كي لا يموت وحيداً في البرج العاجي». نزل ابن بلدة بدنايل البقاعية والمولود في حمص السورية بالفعل من البرج العاجي للثقافة إلى الحياة، ليشتبك بكل تفاصيلها ويحوّلها بطريقته الخاصة إلى حياة شعرية خالصة، أشبه بدون كيشوت وتابعه سانشو ليس سوى الكلمات. رويت عن صفوان حيدر قصص كثيرة، وحيكت حوله روايات طريفة، لكن عند تحليلها تتحول إلى مشاهد سينمائية شعرية، كأن يراقب فتاة في مقهى «الكوستا» لستة أشهر كاملة من دون أن يتبادلا الكلام، ثم يتوجه إليها بالقول: «علاقة الحب التي بيننا قررت أن أنهيها من طرف واحد». كانت حياة صفوان حيدر بأكملها بحثاً عن «أورفليس» على الحد الفاصل بين الجنون والعبقرية، والمتتبع لمسيرته الشعرية والأدبية يمكنه أن يحلّق في جملة شعرية في «نوارس الندم» (دار أمواج ـــ ٢٠٠١) مثل: «كلما ودّعته امرأة جديدة من برج البحر/ غيّر نوع سجائره وهندامه/ ومقهاه الجديد» لنعثر في «أمطار الشمس كلام» (دار الخيال-٢٠١١) على هذيان سوريالي مختلط بالشعر والسياسة يصيب القارىء أحياناً بالحيرة ويصدمه بجمل صريحة ومنفرة. ليست القصص الطريفة التي تروى عن صفوان حيدر هي ما سيبقى من تجربته، بل الأهم لئلا يصبح أدبه طيّ النسيان هو إعادة قراءته كناقد للشعر والرسم والموسيقى وتمييز الغث من السمين في «أقلام وأنغام» (٢٠١٤) و«خطوط وألوان» (٢٠١٦)، وكشاعر نثر شفاف ولا سيما في «تساؤلات من مدينة لماذا» و«أورفليس» وكخالق لرؤية وحالة شعرية في حكايات «نوارس الندم»، الذي يصدّره بقول لشاعر مجهول: «إننا في هذه الحياة لكي نضحك، لأننا لا نستطيع الضحك، لا في الجنة ولا في الجحيم».

◄ بلقيس الحوماني...
مخاض المدينة الصعب

إنها بامتياز راوية المخاض الصعب لانتقال الريفيين، ولا سيما العامليين الجنوبيين منهم إلى المدينة الكبيرة (بيروت) بعد منتصف القرن الماضي للسكن والعمل وما يترتب عنهما من مؤانسة واجتماع وسياسة، والسؤال الصعب الذي ينبثق من هذا النزوح إلى الضواحي: من هو الغريب في المدن الكبيرة؟ وكيف تعامل المدينة غرباءها؟ وإذا كان الاندماج الكبير في المدينة، وفقاً للباحث اللبناني شوقي دويهي قد تحقق لأبناء الطوائف الأخرى من موارنة ودروز عن طريق الجمعيات العائلية والمِلّية، فإن الطائفة الشيعية قد ارتضت نموذجاً مختلفاً: إنه التجمع في أحياء المدينة على أساس مسقط الرأس في القرى والأرياف والدخول إلى سوق العمل على هذا الأساس (نستذكر هنا جملة عصام العبدالله «بيروت عنقود الضيَع»): كانت رواية «حي اللجا» (١٩٦٩) التي نشرت على حلقات متقطعة في جريدة «الديار» منذ ١٩٦٤ لبلقيس الحوماني (؟-٢٠١٧) ابنة حاروف الجنوبية بهذا المعيار. رواية تأسيسية كبيرة تحفر في ثنائية المدينة/ الغريب وتصوّر جدلية القبول والرفض بأبهى صورها، ولا سيما ذلك المطلع الممتاز: «تعالت الشتائم من بين شفتي الأب الذي كان يكسر الحطب في «المزحلة» أمام عتبة البيت، بينما أخذت الأم تروح وتجيء بصمت في أرجاء البيت الكبير المؤلف من غرفة واحدة متسعة بثلاث قناطر على الطراز القديم الشائع في القرى. على المصطبة بجانب الجدار، تكوّمت «فطوم» تنتحب بصوت خافت، لقد زُفت فطوم ذات الأربعة عشر عاماً إلى ابن عمتها البارحة فقط. ما كان في عرسها ما يثير. فقد غسلت جسدها امرأة من قريباتها حيث أعطت ملاحظة عابرة عن عدم وجود شعر أو زغب في جسدها». إعادة الاعتبار لأدب الحوماني اليوم أكثر من ضرورية، ولا سيما أنها أشارت في مقابلة صحافية قبيل وفاتها، إلى باقة كبيرة من مؤلفاتها لم تجد سبيلاً إلى النشر مثل «سأمر على اﻷحزان» (عن واقع الفلسطينيين ومعاناتهم)، و«اللحن الأخير»، و«خبز وزيت وكرامة» (مجموعات قصصية)، و«حول الأسرة البيضاء» (رواية طويلة)، إضافة إلى مسرحيات وقصص للأطفال.
سمّوا بـ«الشيعة الشيوعيين» لانخراطهم في النضال الطبقي وتطعيمه بالروح الكربلائية المفعمة بالرفض والثورة


◄ خضر نبوه... «مفقود الأثر»
«هكذا صارت حبيبتي للخنازير والتماسيح، وصار بابها مفتوحاً لبائع اللحم، صار مفتوحاً لبائع القماش... أنا الوحيد الذي حكموا عليه بأن يتفرّج على حبيبته وهم يغتصبونها»: يكاد يكون خضر نبوه (١٩٣٤-٢٠٠٩) صاحب هذه الجملة الشعرية الجميلة والقاسية من ديوانه الوحيد «كفى» (منشورات غاليري واحد ــ١٩٧٢) كاتباً «مفقود الأثر»، إذ يتعذر حتى على الإنترنت الحصول على تاريخ ولادته أو وفاته، ناهيك بأعماله الغزيرة التي توزعت بين القصص الكثيرة مثل «ربيع الأمل» (مكتبة البيان ــ ١٩٥٦) و«الشمس المصلوبة» (١٩٥٧) و«إنسانية الفئران» (مكتبة راس بيروت ـــ ١٩٦٦)، إضافة إلى تسع روايات أهمها «الجوع» (المكتب التجاري ـ ١٩٦١) و«سجناء الرون» (دار الكاتب العربي ـــ ١٩٦٣)، ومسرحيتان: «الزواج والقتلة» (١٩٦٦) و«الجثة» (١٩٧٠) وكتب فلسفية مثل «اللاعائلية» يلخص فيها نظرته إلى العائلة والزواج و«المؤسسة». ابن برج البراجنة صاحب المسيرة العلمية الحافلة بين «معهد مونبلييه للعلوم الزراعية» (١٩٥٧) وشهادة الدراسات العليا في الفلسفة من «الكلية اليسوعية» (١٩٦٩) والمجاز في التاريخ من «جامعة الكسليك» (١٩٧٥) وجد ضالّته في الأدب، إذ نعثر في «إنسانية الفئران» على نفس كافكاوي بديع لو استمر صاحبه في تطويره، لكان نبوه قادراً على العبور بما كتب من المحلية إلى العالمية. والأعم الغالب أنّ تلك المجموعة كتبت أثناء إقامته في فرنسا وتفاعله مع التيارات الروائية في حينها. الكلمات الأدبية المفتاح في أدب خضر نبوه هي الجوع، والفقر والحرب والسجن، إذ ينحاز في كتابته إلى الفقراء فيلتزم بقضيتهم، ويؤسس مع زميله الأديب عبدالله لحود حركة اللاعنف سنة ١٩٦٧، وربما يكون هذا الضغط الاجتماعي والطبقي هو الذي ألقى بظله على التجربة برمتها وأخذ بها إلى مجاهل النسيان، إذ كتب نزار مروة في جريدة «النداء» سنة ١٩٧٩: «قد يكون خضر نبوه من هؤلاء الكتّاب الذين لم تكن الكتابة لهم مجزية بأي شكل من الأشكال، بل كانت مجازفة لا حدود لها، وأي مجازفة أكبر من أن يستمر الكاتب في الكتابة أكثر من عشرين عاماً وفيها تختلف أنواع الفنون الأدبية من قصة قصيرة وشعر ورواية ومسرح، ثم يجد نفسه بعد هذه المسافة الزمنية الشاسعة غير متمتع بمجد الكتابة أو بشهرة المهنة الأدبية؟».