انطفأ الإشعاع الذي كان في عيني إيفيت أشقر (1928 ــــ 2024) حتى عند عتبة المئة سنة التي كادت أن تبلغها. غابت الابتسامة الجميلة التي لم تفارقها حتى في تلك السنّ المتقدّمة وعزلة السنوات الأخيرة. حين زرناها قبل سنتين في بيتها ومحترفها في بلدة رومية لإجراء حوار معها («الأخبار» 30/6/2022)، كانت هذه الفنانة الكبيرة تعاني الوحدة والتعب الجسديّ وابتعاد مَنْ أعطتهم من جهدها وفنّها. ‏أفصحت لنا يومها عن تغيّر أحوال بيروت التي كانت عنوان المدينة الحيّة، قبل أن ترتدي ثوب الحزن ويستوطنها الفراغ، فتمسي بتعبيرها مدينةً افتراضيةً تفرّق الناس بدلاً من أن تجمعهم، بل رأت أنّ العالم كلّه أصبح مثل بيروت. عاصرت أشقر ‏زمن الكلاسيكيين الكبار، أمثال قيصر الجميل، قبل أن تلتحق بروّاد الحداثة، وتغدو واحدة منهم في المرحلة التي تلت الحرب العالمية الثانية، وتحديداً ضمن «الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة» (ألبا).
عالمها غامض يشبه الدخول إلى منطقة من الألغاز

خلقت مع شفيق عبود، وفريد عواد، وميشال بصبوص، وجان خليفة، وسعيد أ. عقل، وبول غيراغوسيان وإيلي كنعان ونقولا النمّار حركة الحداثة في الفن التشكيلي اللبناني، ليمتدّ مشوارها الإبداعي نحو ستين عاماً قبل أن يُسقط العمر وتعبُ الجسد الريشة من يدها ويحرمها من السبب الوحيد للحياة: الرسم واللوحة.
نشأت إيفيت أشقر ‏فنياً على أن اللوحة والمنحوتة ليستا سلعتين ‏تجاريتين، ويوم بدأت فنّها، لم تكن هناك غاليريات لفكرة مماثلة. كان هاجسها تعبيرياً محضاً، تخالطه طوال السنين رهبة تتملّكها لحظة الوقوف أمام القماشة البيضاء. إنّها العين البريئة أمام مساحة الفراغ التي ستنصبّ عليها العجينة اللونية الزيتيّة، أنثويّة شهوانية، تتمايل بدلال من دون أن تعرف نهاية على حد تعبيرها. فلا إبداع حيث لا ذوبان للفعل الإبداعيّ في العيش، في الحياة، في الإنسان. لذا عاشت أشقر في محترفها وعزلتها، بتقشّف ‏والتمام على الذات. وصفت لنا نفسها بأنّها «حسّاسة جداً، أنانية جداً، متعجرفة قليلاً». الفن بالنسبة إليها يستلزم أكثر من حياة واحدة. هو عزلة وسط الفرح والاطمئنان والسكون الداخلي. لم تأبه للشهرة، فالرسم فعل حميم، خاص، ذاتيّ. كانت تبتدع نصّها التشكيليّ، تغذّيه بمشاعرها وأفكارها وأحلامها، وليحصل ما يحصل. الرسم لديها حكاية شغف وكثافة مشاعر واقتحام متمهّل لباطن الذات.
‏تأثّرت أشقر بالتجريد الذي شكّل منعطفاً في تاريخ الفن الغربي وسعت إلى عدم تناقضه مع شغفها بالفن الشرقي. كان أثر براك ودو بوفيه ودوستال وسولاج واضحاً في أعمالها، فهي مثلهم عمدت إلى هدم الشكل والإنصات إلى إيقاعات الداخل وانفعالاته واحتمالاته الكثيرة. تتحرّك ريشتها برهافة بين الهدم والبناء وعلى نحو نفسيّ متقلّب. لوحاتها غير مرتبطة بزمن، لا تعتق ‏ولا يبدّلها الوقت، فما أنجزته قبل ‫نصف قرن كأنّه أُنجز للتوّ. في عام 2004، أقامت لها نادين بكداش معرضاً استعادياً في «غاليري جانين ربيز»، لكنّ الغريب أنّ هذا المعرض لم يبدُ استعادياً بل معرضاً جديداً. حديثة ‏إيفيت أشقر ‏دائماً، ‏نضرة، «طازجة» ومتجدّدة. هذه هي الطليعيّة، ‏الأصالة، المعنى الحقيقيّ للفن.
تأثّرت بالتجريد الذي شكّل منعطفاً في تاريخ الفن الغربي، وسعت إلى عدم تناقضه مع الفن الشرقي


‏لوحة إيفيت أشقر حملت غالباً «بلا عنوان» ‏وكانت بحثاً عن مساحة نقية، خالية من الأساطير. موضوعها الرئيسيّ ليس الصورة بل الذات، وإزالة كل ما هو سطحي للوصول إلى المركز. عالمها دائماً على حافة التفكك. في إحدى لوحاتها، مثلاً، حقل واسع من الأصفر الفاتح، تقطعه مشحات عريضة من الأسود والأبيض والأزرق. لكنّ الحقل غير مسطّح وغير نقيّ، وظيفته أن يحمي الأشياء من فقدان شكلها، فالمشحات الملونة ليست في تعايش كامل مع الحقل الأصفر، بل تتكدّس كعناصر منحوتة ثقيلة هي في طور اضمحلال لا يمكن إيقافه. غموض مجرّد لا يسعف في فهم التناقض بين الكتلة «النحتية» في اللوحة والمستويات المسطحة لحقول الألوان التعبيرية. مع ذلك، كانت ترفض مصطلح التجريد وتراه مصطلحاً بلا مرجع، فالمرجع الوحيد بالنسبة إليها هو الذات، إذ لا يأتي شيء من لا شيء، فكل شيء موجود بالفعل.
ترمز الذات تماماً إلى أسلوب إيفيت أشقر ومضامينها، وتشديدها على الذات نظريةً وتطبيقاً يجعلها ذات فرادة وريادة في الحداثة اللبنانية، علماً أنّها لا تزال الأقلّ ‏دراسةً لفنّها وأعمالها بين فنانات وفناني جيلها، ربما لأنّ عالمها غامض يشبه الدخول إلى منطقة من الألغاز. لطالما صُنّفت لوحاتها بأنّها تجريديّة، من دون أي وصف إضافي، بل قيل إنّ أسلوبها هو «حكمة زن ضدّ العقلانية الآلية». وكانت هي تعلم أن الناس لا يفضّلون التجريد، لكنّها أصرّت: «قبل أن أرى شجرة، أرسم ما يحيا داخل الشجرة».



في سطور
ولدت إيفيت أشقر في ساو باولو في البرازيل، وواصلت تحصيلها الفنّي عام 1951 في «الأكاديميّة اللبنانيّة للفنون الجميلة» (ألبا) التي أصبحت مدرّسة للفنون التشكيليّة فيها، فضلاً عن كلية الفنون في الجامعة اللبنانية. عرضت أعمالها في ألمانيا وإيطاليا وباريس وروما ويوغوسلافيا، إلى معارضها الكثيرة في لبنان. شاركت في أكثر من بينالي مثل الإسكندرية وبغداد وباريس وساو باولو وكذلك في المعارض الفنية الدولية. نالت عدداً من الجوائز، بما فيها جائزة منظمة اليونسكو العالمية، عدا جوائز بعلبك ووزارة التربية والتعليم والفنون الجميلة الوطنية في لبنان. عرضت أعمالها مراراً في «غاليري جانين ربيز» في بيروت منذ عام 1993 حيث يمكن رؤية أعمالها معلّقة على نحو مستمرّ إلى اليوم.