يواجه فنّانو ومؤثّرو العالم مقصلةً افتراضية من قبل متابعيهم. في عالم يعيش على زرّ إعجاب وتعليق ونشر لمقاطع فارغة، بات التسطيح والتجهيل المتعمّد من سمات العصر، من دون الحاجة إلى لوم العامة على عدم معرفتها. ومع أنّ أحد شروط الحرية، هو إعطاء الحق للناس بعدم المعرفة، فتغافل المؤثرين عما يحدث من حولهم، انقلب عليهم وعلى مصالحهم.بدأت القصة باستخدام المؤثرة هايلي بايلي مقطعاً صوتياً من فيلم «ماري أنطوانيت» (إخراج صوفيا كوبولا ـــ 2006 بطولة كيرستن دونست) وهي تقول «فليأكلوا البسكويت». لم تعلم صانعة المحتوى خلفية هذا القول، وبرّرت استخدامه بأنّه متداول على تيك توك، وكثر استخدموه، وهنا حديث آخر عما ينتشر على المنصات، وكل ما يشوبه من تسطيح. كما أشارت إلى أنّ زيّها مستوحى من ماري انطوانيت، من دون درايتها بمن هي ماري انطوانيت. لكن في الهجوم، تبنّى الناس المعلومة الخاطئة بأن هذا القول يعود إلى ماري انطوانيت، فيما يعود إلى كتاب «الاعترافات» لجان جاك روسو، وكان نصاً أدبياً وليس نقلاً لواقعة.
صوِّر فيديو بايلي قبل احتفال الـ Met Gala الذي أقيم في السادس من أيار (مايو) في نيويورك، إذ كانت بايلي أحد المؤثرين الذين تعاونت معهم محطة E، بهدف خلق محتوى مع المشاهير قبل الاحتفال. بعد نشرها الفيديو، اتسعت حملة لإلغاء وحظر الفنانين في العالم، كانت قد بدأت قبل أسبوعين، استهدفت فنانين وموسيقيين لم يتحدثوا عن الحرب على قطاع غزة. ترافقت دعوات الحظر مع وسوم #celebrityblocklist و#letthemeatcake و#blockout، في حركة وصفها بعضهم بالثورية. وأبرز الأسماء التي حُظِرت أوبرا وينفري، وذا روك، وكيم كارداشيان، وسيلينا غوميز، وتايلور سويفت، وزندايا، وكاردي بي، وبيونسيه، ونيكي ميناج، وكايلي جينر.
بعدها خرجت بايلي في فيديو على صفحتها على تيك توك، لتبرّر سكوتها عما يحدث في غزة بعدم امتلاكها معلومات كافية عن الموضوع، واصفةً إياه بالـ «معقّد»، فيما الحرب لم تتوقف منذ سبعة أشهر، وطلاب الجامعات احتلوا المشهد العام في الغرب، لكنّ الفنانين وصنّاع المحتوى لم يتمكنوا حتى الآن من فهم ما يحدث، وربما لا يريدون أن يعلموا.
الأهم في ردة الفعل، هو وضع المشاهير تحت الضوء ومحاسبتهم على صمتهم حيال ما يحدث في غزة. وفي وقت تستمر فيه المجزرة، وبدأ العدو اجتياح رفح، توالى وصول جماهير العالم إلى السجادة الخضراء والبيضاء إلى احتفال Met Gala، الذي يصنّف الأهم في عالم الأزياء، ولا تحضره سوى أسماء محددة، تختارها رئيسة تحرير مجلة «فوغ» آنا وينتور. وكونه احتفالاً خيرياً، يدفع المدعوون ثمن تذكرة، بلغت هذا العام 75 ألف دولار، و350 ألف دولار للطاولة.
تعليقاً على فيديو بايلي، كتب أحد المتابعين: «العالم ليس آمناً أو مستقراً بدرجة كافية حتى يقبل الشخص العادي ويستمتع بالمشاهير الذين يتباهون بثرواتهم على وسائل التواصل الاجتماعي. الثني على الفلاحين لا ينجح إلا عندما لا يشاهد فلّاحين آخرين وهم يُمحون عن وجه الكوكب». جاء هذا التعليق ربطاً بموضوع هذا العام، الذي حمل عنوان «الجميلات النائمات: أزياء من جديد» المستوحى من رواية «حديقة الزمان» للكاتب ج.ج. بالارد الصادرة عام 1962. تدور القصة في عالم يستخدم فيه الكونت والكونتيسة «زهور الوقت» السحرية للتلاعب بالوقت، وفي كل مرة يقطفان إحداها، يتباطأ الوقت. وفي حال شاهدا من بعيد مجموعة كبيرة من القوى العاملة تقترب منهما، يعمدان إلى قطف زهرة، لإبعاد العمّال الغاضبين عنهما. ولكن مع نفاد كمية الزهور، تمكّن العمال من تدمير منزلهما، وكل ما بقي تمثالان حجريان للكونت والكونتيسة ووردة.
باتت قيمة صناعة المحتوى تقدَّر بـ 250 مليار دولار


تُعدّ الرواية تجسيداً للصراع الطبقي، عاكسةً انتقام البروليتاريا من الكونت والكونتيسة المعزولين. كما أن تصوير بالارد الجيش كقوة وحشية وفوضوية يوحي بانتقاد هذه الانتفاضة، وتصويرها على أنّها مدمّرة ومهددة للمجتمع الراقي الذي تمثله حياة الكونتيسة المثالية. لكن يمكن النظر إلى القصة كرمز إلى الانحدار الحتمي للأرستقراطية، إذ يرمز الكونت والكونتيسة إلى آخر بقايا عصر متلاش. يمكن تفسير انتصار الطبقة العاملة على الكونت والكونتيسة في نهاية القصة، كتعليق على النظام الاجتماعي المتغير وسقوط الطبقة الأرستقراطية.
انقلب موضوع الاحتفال على معدّيه والمشاركين فيه. تجاهل الحاضرون التظاهرات التي كانت تحدث بالقرب من مكان الاحتفال، داعيةً إلى وقف إطلاق النار في غزة، فأصوات الجماهير تقترب شيئاً فشيئاً من قصور القلّة. وأجبرت الحملة بعض الفنانين على التحدث عما يحدث في غزة، مثل ليزو التي شاركت فيديو مرفقاً برابط لحملة تبرّع، بهدف جمع مبلغ لإخراج طبيب وعائلته من رفح. مع ذلك، انهالت عليها التعليقات، لأنها لم تقدم المبلغ المطلوب للطبيب، في وقت دفعت فيه 75 ألف دولار لحضور احتفال Met Gala.
الغضب الذي يواجهه هؤلاء النجوم والمؤثرون هو نتيجة تجاهلهم لما يحدث في العالم. أمر رآه متابعوهم إهانةً لهم ولما يمرّ به سكان العالم من حروب وقتل، وكانت الدعوة إلى حظرهم من أجل فلسطين والسودان. وما يحاول المتابعون الغاضبون القيام به، هو سلبهم ما جنوه منهم، أي الاهتمام والتفاعل، في عالم صناعة المحتوى. قيمة ما يجنيه أصحاب الحسابات الكبرى لا يقدّر بعدد المتابعين، بل أيضاً بحجم الإعجاب والتعليق والمشاركة. وعليه، فحظر الفنانين والمؤثرين له تبعاته على أعمالهم، وخصوصاً على مردودهم المالي. تدرّ هذه الأعمال أموالاً كثيرة، إذ يكسب المؤثرون الذين يملكون أكثر من مليون متابع مثلاً، بين 3000 و15 ألف دولار على كل منشور على انستغرام، وباتت تقدر قيمة صناعة المحتوى بـ 250 مليار دولار، فيما يجني بعضهم أكثر من 100 ألف دولار سنوياً من نشر الصور ومقاطع الفيديو الخاصة بهم على وسائل التواصل الاجتماعي.
ربما لن تحصد هذه الحملة نتائج ملموسة على المدى البعيد، ولن تساعد مقاطع الفيديو الكثيرة في إحداث تغيير لما يحصل في غزة، لكنها على الأقل مكافأة عاطفية لأولئك الذين يقومون بالإلغاء، فهي توفّر بعض الإحساس بالقوة، وبأنهم اتخذوا خطوةً للتأثير على الآخرين لفعل شيء ربما قد يُحدث فرقاً، لأنه في أذهان هؤلاء الناس، حظر الفنانين أفضل من عدم القيام بأي شيء، في خضم حالة العجز التام، والتجاهل المتعمّد للمجزرة، وللأصوات الداعية إلى وقفها.