كان أندي وارهول رؤيويّاً. لقد أخبرنا، في أواخر الستينيات، بأنّه «في المستقبل، سيكون لأيّ شخص القدرة على أن يحظى بـ 15 دقيقة من الشهرة». لم تخِب «رؤيا» وارهول، وإنْ فشل في تحديد مدّة الشهرة. مهرطقٌ بحقّ اللغة اختار لنفسه لقب طبيب الأكل؛ دكتور فوود، بات نجماً «رقم واحد» على منصات التواصل الاجتماعي. كان القصد من لقبهِ الإفشاء عن حكمةٍ زعم أنّه يمتاز بها، تجعله يقيّم الطعام ومكوّناته. حلّاق شعر رجالي، أو هكذا حسبناه، قال: لحظة، لستُ حلاقاً عادياً، أنا «باربر شوب»! عنَى أنّه أكثر من حلّاق شعر، بل مصمّم تسريحات عصرية ومهندس صيحاتٍ. راح «هار زون» يعرض على منصات الفرجة آخر صرعات الشعر وموديلات الذقن، ويختم فيديواته بجملةٍ صار نصف البلد يردّدها، بل غدت لافتة لأحد الأكشاك المنصوبة على جانب الطريق. ومثل جملته، بلغ الـ«باربر شوب» من الشهرة ما يكفي لجعل كاميرات التلفزيونات المحلية تتسابق على استضافته، قبل التبرّؤ منه، وتلاوة فعل الندامة، بعدما اكتُشف أمره بأنّه مغتصب.
(نهاد علم الدين)

«ثورة السبعطعش تشرين» اللبنانية أنجبت مشاهير أيضاً: عصام جوكر، رملاء نكد، الآنسة من جل الديب صاحبة الكلب الأبيض… هم ليسوا على طراز تشي غيفارا، ولا أندريه بروتون، ولا حتى الهيبيز. فالمذكورون يعدّون، بالنسبة إلى هذا العصر، «خشبيين»، من المدرسة القديمة، أي لا يستقطبون «كليكّات»، و«لايكات»، ويعجزون عن صناعة «تريندات». الجميع مشهور الآن. يكفي أن توظَّفَ مفردة «كرينج» (وتعني الابتذال، لكنّ ثمّة إصراراً على إبقائها «كرينج» وقولها بنسختها الأصلية) في السياق الصحيح وتكون قد قطعتَ نصف الطريق. أما النصف الآخر المتبقّي، فيشترط عليك أن تبتكر جملة خاصة، عبارة شعار أي catchprase. عندها ستنهمر عليكَ «القلوب». أن تكون مشهوراً الآن هو أن تنال هذه «القلوب»، وهذا يعني أن تكون محبوباً. ولكي تكون محبوباً، عليكَ أن «تحاكي» الواقع بأعلى درجات الابتذال، بابتذالٍ مفرط. والإفراط في الابتذال يقود المرء إلى تقديم «شو ما كان»: نبرة ابتزازية، استهزاء يلامس التنمّر، «بياخة»، وضجر، الكثير من الضجر. ثمّة من يقدِّم هذا المحتوى وقد حظي بالحب من قبل «العصر»، ونال إثر ذلك الشهرة، وهنيئاً له. شهرته تعرِّف عنه بأنه كوميدي. والأخير، في صناعته للمحتوى، «يجود من الموجود» كما يُقال بالعاميّة عندما يتعلّق الأمر بالطبخ والطهي، لكنه لا يجود بشيء. محتواه خالٍ من الجودة، علماً أنّ اسمه «جواد». لا قدرة على الارتجال. اللعب على المفارقات معدوم. اللهو مع «المواقف» مهجور. مجرّد لغوٍ واجترار وأداء رخو. «مشاهد طبيعية» يجلبها من الحياة، ومواقف يستقيها من الواقع، ينقلها نسخاً كما هي، أي يُردّدها ويُعيد ذكرها ويشاركها مع صديقته رنا، وأحياناً تنقلب بينهما الأدوار وتأخد الأخيرة مهمة الاسترسال على عاتقها، في بودكاست يجمعهما اسمه «شو ما كان». بودكاست اشتُهر بأنه فكاهي ومُضحِك، لكن «المشاهد الطبيعية» المستمدة من اليوميّ والمعيش عند رنا وجواد خالية من «الكوميديا»، مهما شاءت الشهرة أن تنسب إليهما، بل إنّ «كوميديا» رنا وجواد جعلت من تلك «المشاهد الطبيعية» طبيعة ميتة تماماً، مثل الفواكه الجامدة في لوحات كلود مونيه.
قرّر «الكوميديان» المشهوران «التقريق» على مسألة اغتصاب الأطفال


ينتمي بودكاست «شو ما كان» إلى سلالة الإنتاج «الفني» و«الثقافي» الذي نشأ في لبنان بعد «ثورة سبعطعش تشرين». هذا الإنتاج الذي تجمعه قرابة دمٍ مع «الكارثة» و«الأزمة اللبنانية» العميقة. مهما بلغت الأحداث اللبنانية من الفجائعية، تناقش بسذاجة وتُعالج بركاكة، وهناك فائض في الاستعراض (يزداد منسوب الاستعراض عندما يتعلق الأمر بالمِنح الداعمة) حتى يتمنّى المرء لو بقي موضوع الحدث متروكاً لفظاعته، مسكوتاً عن أمره. في الحلقة الأخيرة من بودكاست «شو ما كان» «الفكاهي»، قرّر الثنائي رنا وجواد التطرّق إلى أكثر الموضوعات سخونة في البلد: اغتصاب الأطفال. قرّر الكوميديان المشهوران تفريغ البلاهة و«التقريق» حول المسألة. تباحُثهما في قضية اغتصاب الأطفال المستجدّة، أفضى إلى اعتبار هذه الحوادث بوصفها ممارسة «مفضوحة» للبيدوفيليا، حيث الأخيرة كما بانت معهما، تصبو إلى أن تكون مجرد ممارسة نزقة، «خوتا»، ليس لأنها فاحشة الإجرام، بل لأنّ مرتكبها لا يفكر في صعوبة إخفاء فعلته، كون الطفل سيخبر والديه عمّا حدث. ولأن الطفل سيخبر أهله، ولهي نتيجة حتمية سيلقاها المغتصِب، ارتأى جواد أن يقدّم نصيحة له: «قتل» الطفل بعد اغتصابه. فهذا بالنسبة إليه يشكّل الحلّ النهائي للمغتصِب، مع القتل يمرّ الاغتصاب «نظيفاً»، ويفرّ المغتصِب حرّاً طليقاً. لا سخرية سوداء هنا، بل فاشية طافحة. هناك ما هو مقزّز في هذه السخرية الدنيئة، وهناك أيضاً ما يدعو إلى القلق إزاء طريقة تفكير القائل كذلك. نحن أمام مستوى من الابتذال السقيم، اختار لنفسه اسماً؛ «كرينج»، وهو غالباً ما يتذرّع بالكوميديا، والسخرية السوداء، غير أنّه مهما نجح في هذا الاحتيال، إلا أنّ هويّته القروسطية فاقعة، لا تسعف شهرته في إخفائها. من يجد الضحك هنا فليدلّنا، في هذه الأثناء يتساءل واحدنا: ألم يحن لهذه الخمس عشرة دقيقة أن تنتهي؟