قبل شهر ونيّف احتدم الجدل، مجدّداً، حول النزوح السوري في لبنان، بعد عملية خطف وقتل المغدور باسكال سليمان منسِّق حزب «القوات اللبنانية» في جبيل. في السياق، لوحظ تغييب كامل لعامل مهمّ، في أزمة النزوح السوري، في لبنان خصوصاً، هو العامل الأميركي. لم يكن الأمر ناجماً عن مجرّد سهو، أو عن خطأ عابر وقابل للاستدراك السريع. حتى «التيار الوطني الحر» العوني الذي اهتمّ بالمسألة بشكل شبه متواصل، تجنَّب، لأسباب تعود إلى رغبته في تحسين علاقاته مع واشنطن، تناولَ الدور الأميركي في ملف النزوح السوري. شكّل ذلك التغييب علامة فارقة في مقاربة هذا الملف بالمقارنة مع ملف اللجوء الفلسطيني بعد نكبة عام 1948، والذي نجم عن حملات العصابات الصهيونية للاستيلاء على فلسطين وتشريد ما أمكن من شعبها بالإكراه والمجازر، بتواطؤ ورعاية القوى الاستعمارية الكبرى، وفي مقدمتها بريطانيا أولاً، وواشنطن دائماً وأبداً (وصولاً إلى حرب الإبادة الراهنة في غزة). عدّة أسباب ساهمت في بلورة موقف واشنطن المعارض لعودة السوريين إلى بلادهم:
أولها، تمكّن السلطة والجيش السوريين من الصمود في وجه الضغوط والهجمات الداخلية والخارجية. حصل ذلك بدعم من «حزب الله» في لبنان، ومن «الحرس الثوري» الإيراني. ثم حصل لاحقاً، بدعم روسي عسكري انعطافي في مسار الحرب، ما أدى إلى إفشال حاسم لمحاولات إسقاط سلطة الرئيس بشار الأسد.
ثانيها، فشل المعارضة الداخلية في بلورة بديل سياسي جدير ومستقل، وهيمنة اتجاهات هجينة وأصولية على قيادتها بدعم خارجي تتداخل فيه التأثيرات التركية والإسرائيلية والخليجية برعاية أميركية.
ثالثها، دخول «داعش»، بعد المتطرفين من أجنحة «القاعدة»، لاعباً مؤثراً باجتياح مناطق واسعة في العراق وسوريا تحت لافتة «دولة الخلافة»، ما حجّم، إلى الحد الأقصى، فرص المعارضة في تصحيح مسارها وترميم دورها، وكرَّس تبعيّتها المطلقة للخارج. شكّلت عملية «داعش» مناورة أميركية في الجوهر، وفي الأسلوب تحدّياً حضارياً فاقت جرائمه كل التوقعات وتخطّت كل الحدود، ما فرض التصدي له ومن ثم انهياره شبه الكامل في كل من سوريا والعراق ولبنان.
لا ترعى واشنطن استمرار النزوح السوري فقط، بل هي تقود خطّة لاستدراج المزيد من النازحين!


انتقلت واشنطن بعد فشل محاولة إحداث انقلاب لمصلحتها، إلى بناء خطة شاملة لعرقلة استتباب الوضع لمصلحة النظام السوري وحلفائه: هي ضغطت، دون كلل، لتعطيل كل المبادرات والمحاولات العربية والإقليمية والدولية الرامية إلى إبجاد تسوية سياسية للأزمة السورية. استغلّت، لهذا الغرض، ورقة نزوح ملايين السوريين إلى الخارج. نظَّمت عملية تشجيع وحماية الدويلة الكردية (بإدارة «قسد»). أقامت قواعد عسكرية للسطو على الجزء الأكبر من النفط السوري، ولمراقبة وإعاقة التواصل بين العراق وسوريا، عبر قاعدة «التنف» على المثلّث الأردني العراقي السوري. عزّزت حضورها العسكري في الأردن. غذّت حملة اتهام للسلطة السورية برعاية أنشطة تهريب المخدّرات. دفعت الحكومة الأردنية، شريكتها في التدخّل والتآمر ضد السلطات السورية، إلى استفزاز متعدّد الأشكال ضد دمشق. شجّعت العدوّ الصهيوني على تصعيد اعتداءاته ضد الأراضي السورية... إلى ذلك، استصدرت «قانون قيصر» لحصار سوريا وخنقها، ولمعاقبة من يتعامل معها.
في السياق، كان للنازحين السوريين في لبنان وظيفة إضافية في الخطة الأميركية، حيال الداخل اللبناني نفسه. تفكّك الدولة وحضور العامل الطائفي في إحداث الانقسامات أو في تغذيتها، شكّلا فرصة للرهان على خلق توترات سياسية واستقطابات طائفية موجّهة، بالدرجة الأولى، ضدّ «المقاومة الإسلامية» ونشاطها ضدّ العدوّ الصهيوني. اقترن ذلك بجهد كبير ومباشر لتغذية الأزمة الاقتصادية وتفجيرها، ولتحميل المقاومة مسؤولية النهب الشامل الذي اقترفته السلطة الحاكمة والذي أفلس الدولة والمواطنين على حدّ سواء.
كانت القوى «السيادية» التابعة لواشنطن تواكب الصراع في سوريا، منذ اندلاعه في آذار عام 2011، بالتهليل والتأييد، وصولاً إلى المشاركة والدعم المباشرين. غذّى ذلك رهانٌ شديد التفاؤل بإمكانية إسقاط السلطة القائمة واستبدالها بسلطة تدين بالولاء لواشنطن ولحلفائها وأتباعها العرب وغير العرب. وهكذا، وباستثناء دور «التيار الوطني الحر» الذي اتّخذ موقفاً طائفياً «تقليدياً» من النزوح السوري، لاذ الفريق اللبناني المتأمرك بالصمت الرهيب حيال تعاظم النزوح السوري والمخاطر التي يشكّلها عبر تداعياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية... وخصوصاً في دولة مفكَّكة، وسلطة منقسمة، وخزينة مفلسة، وشعب منهوب ومستضعَف. بل إن هذا الفريق، المدمن على المواقف العنصرية والعدائية ضد الفلسطينيين والسوريين، انخرط في حملة واشنطن والغرب في الاعتراض على محاولة تنظيم عودة طوعية وآمنة للنازحين السوريين نظّمتها الحكومة اللبنانية وأجهزتها الأمنية، بإشراف الأمم المتحدة وبالتنسيق مع السلطات السورية!
إنّ القوى نفسها التي مارست الضغط وشنّت حروب «التحرير» ضدّ اللجوء والوجود الفلسطيني في كل المراحل، وصولاً إلى حرب الـ 15 سنة، قررت «بلع» نزوح مفتوح لأكثر من مليونَي سوري كرمى لعيون «السيّد» الأميركي ومن ورائه العدوّ الصهيوني. هذه القوى نفسها لم تتردّد أيضاً في إعلان رفضها لاستقبال أيِّ مهجَّر لبناني من الجنوب أو من البقاع الغربي نتيجة الصراع مع العدوّ المحتلّ والطامع، والذي يدير حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني. وهي أعلنت، لاحقاً، معارضتها تقديم أيّ مساعدة رسمية للنازحين اللبنانيين لتعويض بعض خسائرهم البشرية والمادية! تَقدَّم هذه القوى، في كل المراحل، فريق «القوات اللبنانية». أصرّت قيادة «القوات»، حتى بعد اتّضاح الطابع الجنائي لخطف وقتل منسّقها في مدينة جبيل، على أن «الاغتيال سياسي» وأن المسؤول عنه هو، تحديداً، الطرف الذي يساند الشعب الفلسطيني! بالإضافة إلى ذلك، فقد حاولت قيادة «القوات»، ورئيسها خصوصاً، استغلال عملية الاغتيال لدفع مشروعها التقسيمي خطوة جوهرية إلى الأمام: من خلال الظهور الميليشوي المسلّح والتلويح بـ«الأمن الذاتي»، والتشكيك بدور الأجهزة الأمنية وفي مقدمتها الجيش... وصولاً إلى توتيرٍ من شأنه إرباك مجمل الوضع الداخلي وطرح تحدّيات جديدة وخطيرة على المقاومة، ما يخدم، موضوعياً، حليف «القوات» (السابق)!
لا ترعى واشنطن استمرار النزوح السوري فقط، بل هي تقود خطة لاستدراج المزيد من النازحين! ما تواصله في لبنان وسوريا وفلسطين وكل المنطقة، هو مشروع هيمنة متنوّعة الأساليب والأدوات والأسماء، وموحّدة الهدف: تعزيز سيطرتها وتأبيدها على «الشرق الأوسط الكبير» الممتدّ من موريتانيا إلى باكستان، وجوهرة عقده الكيان الصهيوني.

*كاتب وسياسي لبناني