الخلفية التاريخية العقيدة الصهيونية هي الابنة الشرعية للنتاج الثقافي الأوروبي الذي بنى مفهوم الدولة-الأمّة على أسس عرقية ودينية، فتمّ إقصاء من لا ينتمي إلى الدين السائد و/أو العرق المهيمن خارج منظومة المواطنة. وتجلّى هذا النمط بأوضح صورة في ألمانيا التي كانت السبّاقة بين الدول الأوروبية في نهضتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، فسطع نجم ألمانيا إبّان القرنين الثامن والتاسع عشر في الموسيقى (أشهر المؤلّفين الموسيقيين والطليعيين)، في الأدب القصصي، وفي الفلسفة؛ ولها الفضل في وضع المداميك الأولى لعلم الاجتماع وعلم النفس والاقتصاد والعلوم الطبيعية، خاصة في الفيزياء والكيمياء. أنشأت جيشاً جبّاراً استفاد من التكنولوجيا الحديثة نتيجة الثورة الصناعية، كما أن هذه الثورة أدّت إلى تراكم رأس مال ضخم في أرجائها. ومن الصعب تصوّر مثال يضاهي ألمانيا في القمم المعرفية التي بلغتها في تلك الفترة بالذات، وهي التي باشرت في صنع القنبلة الذرية قبل أن يسحقها الحلفاء مع نهاية الحرب العالمية الثانية.
كعب أخيل في هذه المسيرة الباهرة كان تبنّي عقيدة التفوق العنصري الآري، واضطهاد من ليس آرياً ومنهم اليهود، ما أدّى إلى خروج الأدمغة اللاآرية خارج ألمانيا. فلقد توزّع العلماء الهاربون من نير التعصب العنصري الآري بين الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا في شكل أساسي، والتزموا محاربة ألمانيا وتقديم معرفتهم واختراعاتهم للدول التي لجأوا إليها. فإن ألقينا نظرة خاطفة على إنجازات الولايات المتحدة الأميركية في تلك الفترة من القرن العشرين لوجدنا الأسماء الألمانية/اليهودية على رأس القائمة، من اختراع القنبلة النووية إلى إدارة شؤون الدولة والحكم إلى التمركز في أهم الجامعات الأميركية، وإدارة أهم المصارف، والسيطرة على النشاط الفكري في جميع أشكاله، من صحافة وأدب وعلوم، وكان هؤلاء الأشخاص مؤهلين لذلك بسبب تدربهم السابق في ألمانيا. وساعدهم في ذلك استحواذهم منذ القرون الوسطى على رؤوس أموال ضخمة شرقاً وغرباً بسبب ديانتهم، ذلك أن الديانتين المسيحية والإسلامية منعتا أتباعهما من ممارسة الربا بينما سمحت به اليهودية، وهذا من أهم أسباب محاربة هتلر لليهود، إذ إنهم كانوا ممسكين بالاقتصاد الألماني، ومن بيده الاقتصاد يستطيع الهيمنة على السياسة والحكم.
التحولات الديموغرافية الضخمة التي حصلت خلال القرن العشرين وبداية هذا القرن، قلبت الكثير من المسلّمات رأساً على عقب في المجتمعات الغربية على وجه الخصوص


تبنّت العقيدة الصهيونية نظرية التفوق العنصري الألماني، وطبّقتها على نفسها، واستعارت من تراثها الديني القبلي لتنشر فكرة أنها أمّة «شعب الله المختار»، واستبدلت كلمة آري بـ«ساميّ»، فمن يحارب الصهيونية لا يستطيع أن يكون إلا معادياً للسامية! وهكذا دُعّمت فكرة الصهيونية، وهي فكرة قومية عنصرية متطرفة، بالعامل الديني، ما لاقى انتشاراً واسعاً في صفوف البروتستانتيين المؤمنين بـ«العهد القديم» للكتاب المقدّس، وكتاب «العهد القديم» عبارة عن سرد للتاريخ كما يراه اليهود، ويدين بالبروتستناتية غالبية سكان الولايات المتحدة الأميركية وكذلك بريطانيا وألمانيا.
ارتكازاً على كل هذه العوامل، ازدهرت العقيدة الصهيونية في الغرب، وساعدها الاستعمار الغربي على الاستيلاء على فلسطين، واعتبرها جزءاً من منظومته لأن الصهاينة غربيو الأصول العرقية. لكنّ التحولات الديموغرافية الضخمة التي حصلت خلال القرن العشرين وبداية هذا القرن، قلبت الكثير من المسلّمات رأساً على عقب في المجتمعات الغربية على وجه الخصوص.

تحوّلات المجتمع الغربي
على رأس تحوّلات المجتمعات الغربية هو الهجرات المتتالية، الشرعية وغير الشرعية، إلى دول الغرب الأطلسي من الأجناس التي لا تُعتبر «بيضاء». وبما أن الدول الغربية تعلن عن نفسها بأنها «ديموقراطية»، فهي لا تستطيع أن تمنع المواطنة على من يولد على أرضها. هذا التحول الديموغرافي الدراماتيكي، خاصة على صعيد الولايات المتحدة الأميركية، هزّ أركان العقيدة الصهيونية كما هزّ أركان النظريّات العنصرية التي تمنع مبدأ المساواة الديموقراطي من التحقّق. فولاية كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأميركية، مثلاً، معظم سكانها اليوم من غير العرق الأبيض، وهم يواجهون الصلف العنصري ذاته الذي يواجهه الفلسطيني في الأراضي المحتلة، وبالتالي يتعاطفون ويؤازرون الفلسطيني في مواجهة المستعمر الصهيوني الاستيطاني الذي يريد إبادتهم واحتلال أرضهم.
تواجه الولايات المتحدة الأميركية البيضاء المأزق نفسه الذي يواجهه الكيان الصهيوني، وهو انهيار منظومة التفوق العنصري والفصل العنصري. فالطلبة الذين يتمرّدون على النظام القائم الذي يمارس الإجحاف بحق الأعراق الأخرى من سمراء وصفراء وسوداء، يرفضون دولة صهيونية إحلالية عنصرية في فلسطين، إذ إنهم يتشاركون والفلسطينيين القضية نفسها، لذلك سيستمر النضال الطالبي بناءً على الأسس التي يقوم عليها النظام الديموقراطي ألا وهي المساواة بين المواطنين بمعزل عن دينهم أو عرقهم، ورفض مفهوم إبادة الشعوب من أساسه بناءً على نظريات التفوق العنصري التي أدلج له الغرب في محاولته لاستعمار العالم. ومن هنا يمسي الحزب الديموقراطي الأميركي محرَجاً كونه يؤمن نظرياً بهذه القيم فيما هو يمارس عكسها على الأرض. هذا عدا اللامنطق الحاصل من جراء دعم موقف ونقيضه في نفس الوقت: فالصهيوني الذي يتهم النازية بإبادة اليهود لأنهم غير آريين، يقوم بإبادة الفلسطينيين لأنهم ليسوا يهوداً، والأميركي الذي يجرّم الإبادة بشكل مطلق، يدعم الإبادة الصهيونية للشعب الفلسطيني!
كما تنهار أنظمة الفصل العنصري في العالم، ستنهار العقيدة الصهيونية الممارسة لإلغاء الآخر وإبادته، لأن اختلاط الأعراق والأديان هو عنوان العالم الحديث الذي أصبح منفتحاً بعضه على البعض الآخر عبر وسائل التواصل، وعبر طرق المواصلات السريعة. هذا الانفتاح هو سمة تاريخ وحضارة المشرق العربي منذ قدمه، فلا الأديان الوثنية، ولا المسيحية أو الإسلام دعمت الإبادة أو الفصل العنصري في مجتمعاتنا، بل على العكس من ذلك تماماً. وبالتالي، الحل الوحيد المستقبلي هو تلاشي الكيان الصهيوني العنصري الذي لم يعد له أي مكانة في خضمّ تغير القيم والمفاهيم الحديثة خاصة بين الشبان والشابات، وانتفاض الشعوب الرافضة للموت والإبادة.

* أستاذة جامعية