خَطَت أنجيليكا مولين خطوة بسيطة لامرأة هي بمثابة قفزة عملاقة في الكنيسة الأرثوذكسيّة لن تُحدث أقلّ من زلزال نفسيّ ونفض غبار كثيف من غبار التاريخ عن الممارسة والفكر في الكنيسة الأرثوذكسيّة. فقد قامت الكنيسة الأرثوذكسيّة في جنوب أفريقيا في ٢ أيّار الماضي برسامة (تعيين طقسي) أنجليكا في وظيفة شمّاس (مساعد للكاهن) وهي وظيفة اضطلعت بها النساء منذ بداية نشوء الكنيسة، قبل أن يتلاشى حضورهنّ في هذه الوظيفة منذ حوالي 18 قرناً. وسيسيل حبر كثير لردّات فعل نتوقّعها تتأرجح بين الرفض الهستيري لرجال الدين وبين التعالي الفوقي المتمسّك بقوالب فكريّة متحجّرة للهجوم على هذه الخطوة المنسجمة مع اللاهوت الأرثوذكسي الذي لا يستطيع رجاله - لحسن الحظّ – أن يلغوا تاريخ ولاهوت الكنيسة الأولى، والمتضاربة مع التشنّج (والشحّ) اللاهوتي الذي يكاد يعرفه العالم الأرثوذكسي في كلّ موضوع مُعاصر تطرحه المجتمعات المعاصرة على ضمير البشر (شموسيّة المرأة، كهنوت المرأة، التحرّش والاعتداء، المثليّة، أخلاقيّات علوم الحياة،...).موقف الكنيسة من المرأة موقف أقلّ ما يُقال فيه إنّه موقف ملتبس، وبرأيي إنّه موقف معادٍ متّشح بإعلاء شأن المرأة من زوايا عدّة؛ أهمّها زاوية تمجيد دور مريم بولادة يسوع أي تجسّد كلمة الله بحسب العقيدة المسيحيّة. هذا التمجيد يحاول رفع شأن المرأة اسميّاً، لكنّه يحطّ من كرامتها ومساواتها للرجل بعرقلة عودة دور المرأة في القيادة الكنسيّة من خلال، على الأقلّ، إحياء في وظيفة الشمّاسات. ويتّضح التضارب بين الرفع اللفظي من شأن المرأة في الكنيسة الأرثوذكسيّة وبين دفعها إلى المواقع الخلفيّة عمليّاً ضعف عدد اللاهوتيّات في الجسم الكنسي، وفي الكنيسة الأنطاكيّة يبدو فاقعاً غياب اللاهوتيّات وتهميش أيّ دور لصوت لاهوتي نقدي وخاصّة إن أتى من امرأة. وللتدليل على ما نقول نذكّر بأنّ عدد الأستاذات المتفرّغات في كلّية اللاهوت في جامعة البلمند هو صفر، وأنّ البطريركيّة الأنطاكيّة قامت منذ سنوات قليلة (٢٠١٩) بعقد مجمع خاص للبحث بشؤون العائلة، حضره ما يناهز الستّين من الرجال وامرأتان!
الإنجيل واللاهوت لا ينقلان رسالة يسوع مباشرة، وإنّما عبر مصافٍ عدّة تعود لحضارة الكاتب ونفسيّته وعُقده وواقع علوم عصره وعادات مجتمعه، إلى ما هنالك. لذلك يعتمد المسيحيّون على حضور الروح القدس في قلب كلّ مؤمن وفي الجماعة الكنسيّة لنشوء علاقة خاصّة لكلّ شخص مع يسوع، وللاجتماع باسمه وتحرّي مدى قرب الشخص أو الجماعة من رسالة يسوع المسيح وبعدها عنه، علّ ذلك يؤدّي على توبة، أي حرفيّاً تغيّر في الذهن. إنّ حضور يسوع في التاريخ يتمّ من خلال الجماعة الكنسيّة في نتاجها الفكري والعمليّ الناتج من فِعل العودة إلى أصالة رسالة يسوع. لا شكّ أنّ تاريخ الناس الذين تسمّوا باسم يسوع أرخى بغبار كثيف فوق اللآلئ الأولى التي وضعها يسوع بيننا بكلامه وتصرّفاته ومهمّة الذين تسمّوا باسمه في كلّ عصر هي إعادة نفض هذا الغبار الذي لا بدّ من تراكمه كي لا تختنق أنوار اللآلئ تحت غبار السنين.
الفكر والممارسة المسيحيَّان محكومان بديناميكيّة التعبير عن الإيمان من خلال الواقع في التاريخ ونفض الغبار التاريخيّ الذي لا بدّ من تراكمه، فالتعبير يعني بالضرورة استخدام قوالب زمانيّة ومكانيّة لهذا التعبير، وأن يمرّ هذا التعبير من خلال النفس البشريّة بتعقيداتها وعقدها، وكلّ هذا يتغيّر بتغيّر الأزمنة والناس. هذا ما عبّر عنه بولس في إحدى رسائله للمسيحيّين الذين بشّرهم بقوله «لنا هذا الكنز بآنية من خزف»، الأرثوذكس أدمنوا الخزف حتّى كادوا أن يحنّطوا كنز رسالة التحرير خوفاً عليها من «التغيير»؛ لربّما كان من الأفضل أن يتمسّكوا بالمحبّة وهي «تطرح الخوف خارجاً» كما قال بولس نفسه.
ليس فقط الأشخاص، ولكن أيضاً الكنيسة كجسد ليسوع، كحضور ليسوع متجسّداً في التاريخ، بحاجة إلى عمليّة توبة، لتغيير في الذهن لا يمكنه أن يتمّ إلّا بخلق مؤسّسات وآليّات تشاركيّة غير محصورة بالرجال، ولا تهمَّش فيها النساء، لإعادة النظر في فكرها وممارساتها اليوم، وكلّ يوم. «إن سمعتم صوته اليوم فلا تقسّوا قلوبكم» تقول الكنيسة عن الروح القدس، الروح اليوم يهبّ من زيمبابوي جنوب أفريقيا، من خطوة امرأة تُدعى أنجليكا، أي ملاك مرسل من الله. فهل تبقى الكنائس الأرثوذكسيّة الأخرى مشيحة بقلبها عن هبوب الروح، عن رسائل الله لنا في النساء؟

* كاتب وأستاذ جامعي