لم تفلح إدارات الجامعات الأميركية، بالتعاون مع السلطات الفدرالية والأجهزة الأمنية التابعة للولايات، في لجم «الهبَّة الطالبية» المستمرّة منذ الـ17 من نيسان الماضي، وذلك على رغم الإجراءات الأمنية المشدّدة التي دشّنتها خلال الأسبوع الماضي، والتي أوصلت «غلّة الاعتقالات» في صفوف الطلبة والناشطين المحتجّين في أحرام الجامعات في شتى أنحاء البلاد، إلى أكثر من 2800 شخص، بينهم ما لا يقلّ عن 50 من المدرّسين. وفي ضوء ذلك، تبقى التطوّرات المرتبطة بالحَراك الطالبي، مفتوحة على مشهدَين رئيسيين: أولهما، يتعلّق بإصرار بعض الجامعات على المراوحة ضمن الدائرة نفسها من معارك «الكرّ والفر» مع طلبتها، فيما يرتبط ثانيهما بجنوح أخرى إلى إعادة تقييم «نهجها العنفي» في التعامل مع الاحتجاجات الطالبية، ومحاولة الوقوف عند هواجس المعتصمين المتضامنين مع الشعب الفلسطيني في باحاتها.
من «جونز هوبكنز» إلى «ويسكونسن- ميلووكي»
ومن المؤشرات السلبية، خلال الساعات الأخيرة، كان استعادة مشاهد اقتحام الشرطة الأميركية مرّة جديدة باحات الاعتصام في جامعة «جنوب كاليفورنيا»، أثناء حفل التخرّج السنوي الذي تنظّمه الجامعة، وذلك بدعوى «إعادة الهدوء»، في إشارة إلى فضّ تظاهرات رافضة للحرب على قطاع غزة كان قد شهدها الحفل. في المقابل، كان المشهد مغايراً تماماً في جامعة «جونز هوبكنز» في ولاية ماريلاند الأميركية، ومماثلاً لِما جرى قبل أيام في جامعتَي «براون» و»نورث إيسترن»، وأخيراً «ويسكونسن - ميلووكي» (التي وافقت على الانضمام إلى الدعوات لوقف إطلاق النار في غزة، ودعت «اتحاد ميلووكي لشركات تكنولوجيا المياه»، إلى قطع العلاقات مع كيانَين مملوكَين للحكومة الإسرائيلية، في مقابل موافقة الطلبة على تفكيك الاعتصام، بحلول (اليوم) الثلاثاء، والامتناع عن تعطيل احتفالات التخرّج في الجامعة)، مع إعلان إدارتها التوصّل إلى اتفاق مع الطلبة لفضّ اعتصامهم، في مقابل تعهّدها بقطع الروابط مع المؤسسات الإسرائيلية، وبخاصة تلك التي لها تعاملات مع الجيش الإسرائيلي. وعلى رغم تأكيد الجامعة، التي تمثّل حصة كبرى من استثمارات الجامعات الأميركية في الشركات الإسرائيلية، التزامها بـ»إجراء مراجعة في الوقت المناسب» لسحب تلك الاستثمارات، واحتفاظها بالحقّ في العودة إلى فرض الإجراءات الأمنية المشدّدة في حرم الجامعة في الحالات التي تراها مناسبة، فقد أكّد الطلاب، من جهتهم، إصرارهم على مواصلة حراكهم إلى حين تحقيق المطالب، حيث لجأ بعضهم إلى تنظيم فعالية احتجاجية أمام منزل رئيس الجامعة للضغط عليه في هذا الاتجاه. وشدّدت «مجموعة (جامعة) جونز هوبكينز لتحقيق العدالة»، وهي إحدى المنظّمات الشبابية المشاركة في الاعتصامات، على «(أنّنا) لا نرضى بأيّ حال من الأحوال النظر إلى الاتفاق بوصفه نهاية لتظاهراتنا»، معتبرة أنه مجرّد خطوة أولى نحو تطلعاتها الكبرى، المتمثّلة في «تحرير فلسطين».
تدور رحى حرب أخرى بين المتظاهرين أنفسهم، وتحديداً المؤيّدين منهم لفلسطين وأولئك المؤيّدين لإسرائيل


تكتيكات طالبية جديدة
ومن أبرز التطوّرات التي طَبعت نهاية الأسبوع الماضي، لجوء الطلاب، ورداً على قيام الشرطة بتفكيك الاعتصامات في غير جامعة، إلى تكتيكات جديدة، ومن ضمنها الإصرار على مقاطعة حضور شخصيات داعمة لإسرائيل، داخل جامعاتهم، كما جرى أخيراً مع الممثّل الكوميدي جيري ساينفيلد، المعروف بانحيازه إلى كيان الاحتلال، حين أطلق عشرات الطلبة صيحات الاستهجان خلال تسليمه دكتوراه فخرية في «جامعة ديوك»، وقبله مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، ليندا غرينفيلد، حين ألغت إدارتا جامعتَي «كزافييه» و»فيرمونت» كلمة مقرّرة لها، نزولاً عند رغبة مجموعة كبيرة من الطلبة. كذلك، لم يغفل الطلبة المتضامنون مع فلسطين، في نهجهم الاحتجاجي الجديد، توظيف حفلات التخرّج كمنابر سياسية للإعراب عن تضامنهم مع معاناة الشعب الفلسطيني في غزة، ولا سيما عبر رفع الأعلام الفلسطينية في حضور أساتذتهم، وزملائهم من الخرّيجين، أو ترديد هتافات مطالبة بسحب استثمارات الجامعات الأميركية من إسرائيل، وسط تفاعل إيجابي من الحضور. وهو تماماً ما عكسته أجواء حفلات التخرّج سواء في «كلية إيمرسون» و»جامعة مينيسوتا» لهذا العام، أو حتى في «كلية بيتزر»، حيث قرّر الطلبة إظهار معارضتهم استخدام رئيس مجلس الكلية، ستورم ثاكر، حق النقض ضدّ اقتراح حظي بتأييد غالبية المجلس، وقضى بإقرار المقاطعة المؤسّسية الكاملة للجامعات الإسرائيلية، وذلك عبر حضورهم مرتدين الكوفيات، وإهدائهم إياه العلم الفلسطيني.
أما في «كلية بومونا»، التي تُعدّ واحدة من خمس كليات جامعية ومؤسستَين للدراسات العليا ضمن مجمع «كليات كليرمونت»، فقد بادرت إدارة الكلية، وبدافع الخشية من إعلان جماعات مؤيّدة للفلسطينيين عزمها تنظيم فعاليات احتجاجية خلال حفل التخرّج الذي تنوي الكلية تنظيمه، وبدء نصب مخيّم اعتصامي في المكان، تحت لافتات كُتب عليها: «كلية بومونا، امنعوا الإبادة الجماعية الآن»، ووسط هتافات «عار عليكم!»، إلى نقل موقع الحفل المذكور إلى مكان آخر، ومنع البثّ المباشر للحفل، قبل أن تتوسّع الاحتكاكات بين الطلبة والشرطة وتنتقل إلى محيط الموقع الجديد للحفل، وتحديداً خارج قاعة «Shrine Auditorium»، الواقعة وسط مدينة لوس أنجليس. وكانت «الحكومة الطالبية» في الكلية قد صوّتت، في شباط الماضي، لمصلحة إقرار المقاطعة الأكاديمية لإسرائيل، ودعوة الكلية إلى الكشف عن علاقاتها بالشركات المتورّطة في دعم الحملة العسكرية الإسرائيلية في غزة.

حرب تشهير
وفي خضمّ هذا المشهد، تدور رحى حرب أخرى بين المتظاهرين أنفسهم، وتحديداً المؤيّدين منهم لفلسطين وأولئك المؤيّدين لإسرائيل، وتقوم أساساً على انتهاج «تكتيكات التشهير» التي بدأت تتبنّاها حسابات طالبية داعمة للفلسطينيين على مواقع التواصل الاجتماعي كـ»ريفين ميشن». ويأتي ذلك ردّاً على إجراءات مشابهة لجأت إليها مواقع إلكترونية مدعومة من اللوبي الصهيوني، وفي طليعتها موقع «كناري ميشن»، المؤسّس عام 2015 بدعوى «مكافحة العداء للسامية»، والمموَّل من جمعية إسرائيلية تدعى «ميجاموت شالوم»، ويُعنى بالتحريض على الناشطين الداعمين للفلسطينيين، ونشر بيانات شخصية عنهم، كصورهم، وأماكن إقامتهم، وعناوين حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي.
وفي سياق محاولة جامعات أميركية الإيحاء بوقوفها على الحياد في المعركة الدائرة بين معسكر «القائمين على سردية مكافحة معاداة السامية»، ومعسكر «القائمين على سردية مكافحة الإسلاموفوبيا»، على وقع شروع وزارة التعليم الأميركية في فتح تحقيقات في عشرات الجامعات منذ السابع من أكتوبر، في ما تصفه بـ»ارتفاع مثير للقلق على مستوى البلاد» في عدد البلاغات المتعلّقة بـ»معاداة السامية» و»الإسلاموفوبيا»، قامت إدارة «جامعة أريزونا» بطرد الأستاذ الجامعي، جوناثان يودلمان، على خلفية ظهوره في مقطع فيديو رفقة جندي إسرائيلي شارك في الحرب على غزة، وهما يوجّهان ألفاظاً نابية إلى امرأة مسلمة خلال إحدى التظاهرات.