طوال عقدَين من الزمن، حاولت سلطات العدو الإسرائيلي، في طريقها إلى ضرب المشروع السياسي الجماعي الذي مثّلت انتفاضة عام 2000 نواة له، تثبيت استراتيجيتَين أساسيتَين في التعامل مع فلسطينيّي عام 1948: أولاهما تقوم على تجريم العمل السياسي وملاحقة القيادات السياسية التي حاولت تنظيم الفلسطينيين جماعياً؛ وثانيتهما دمج هؤلاء في السوق الإسرائيلية، في مسعًى لتطويقهم واحتوائهم، أي صهرهم في بوتقة الأسرلة، باستخدام الأدوات الاقتصادية النيوليبرالية. وتوازت تلك المساعي مع أداء هشّ ومخزٍ للأحزاب السياسية التقليدية في الداخل كافّة، وخصوصاً خلال السنوات الثلاث الأخيرة، حيث تحوّلت إلى «قوّة ثالثة» أو «ثانية» تحاول إقناع نفسها بأنها باتت مؤثّرة في تشكيل المشهد السياسي الأعمّ في الكيان. وبينما كانت هذه الأحزاب، التي قاطعها أكثر من 50% من الفلسطينيين في انتخابات «الكنيست» الأخيرة، غارقة في أوهامها، كانت ظواهر الجريمة والعنف والبطالة، وأزمات السكن والتعليم وغيرها، تتعمّق في «الغيتوهات» العربية المكتظّة، التي باتت كمخيّمات على هامش المدن الإسرائيلية الكبرى. في المقابل، اشتغل الشباب الفلسطينيون على تنظيم أنفسهم من جديد في حراكات وطنية شبابية، مستقلّة عن الأحزاب، وهو ما هيّأ الأرضيّة لانفجار هبّة أيار 2021، والتي مثّلت ذروة التصدّي لمخطّط تفكيك المشروع السياسي الجماعي الفلسطيني، الأمر الذي لم يكن له في إسرائيل إلّا وقْع الصدمة.
(أ ف ب )

وإلى جانب الدور الأساسي الذي لعبته الحراكات الشبابية في الهبّة، كان للجان الشعبية المحلّية أيضاً دور مهمّ لم يُحكَ عنه كثيراً. فما هي هذه اللجان؟ وأيَّ دور أدّت؟ وهل هناك ما يُنتظر منها مستقبلاً؟ في البدء كانت أم الفحم؛ فمن هناك انطلقت أوّل لجنة شعبية عام 2015، كما يقول رئيسها أحمد شريم (أبو يسار)، في حديثه إلى «الأخبار»، موضحاً أن فكرة تشكيلها «انطلقت ممّا فرضته القضايا الوطنية الراهنة، وفي مقدّمتها قضية هدم البيوت، ليمتدّ دورها لاحقاً إلى التلاحم مع الحدث الفلسطيني الأعمّ، وخصوصاً عندما أحرق المستوطنون عائلة الدوابشة في قرية دوما في نابلس، ثم مع تصاعد التضييق على الفلسطينيين، وهو ما تجلّى في فرض اللجنة إرادتها بتشييع الشهداء الثلاثة، محمد جبارين ومحمد جبارين ومحمد جبارين، عام 2017، بالآلاف، خلافاً لشروط الاحتلال». شكّلت هذه التجربة، طبقاً لأبي يسار، «حافزاً لبقيّة القرى والمدن الفلسطينية في الداخل لاستنساخها»، في ما أفضى إلى تشكّل «فروع» للجنة القُطرِيّة المعروفة باسم «لجنة المتابعة».
ثمّة مقاطعة اقتصادية من قِبَل اليهود للمصالح التجارية الفلسطينية في يافا


أمّا عن دور اللجان في هبّة أيار، فيُبيّن أنها كانت «محرّكاً في التنظيم والحشد والتواجد في التظاهرات والمواجهات»، كما لعبت دوراً مهمّاً «على مستوى توفير الدعم القانوني والمالي للمعتقلين وأهاليهم، والتواجد في المحاكمات لمساندتهم، وخصوصاً منهم أولئك الذين لم تكن لهم تجربة سابقة في الاعتقال. وكان لذلك أثره الهام لناحية استمرار هؤلاء الشباب في المشاركة في العمل الوطني، وأخيراً في الرباط في الأقصى». وردّاً على سؤال عمّا إذا كان هناك تنسيق بين «الفروع» في مختلف المناطق، يشير شريم إلى أن اللجان توحّدت في ما بينها في منطقة وادي عارة، مضيفاً أن «لجنة المتابعة» أفرزت منسّقاً مشتركاً، لكنه «لم يسهم في تطوير أدائها جماهيرياً نظراً إلى الفروقات الشاسعة في المواقف السياسية، فالمنسّق ينتمي إلى تيار حكومة إسرائيل، المدعومة من القائمة الموحّدة، التي تتبنّى خطاب سلطات الاحتلال ومصالحها».

«الدفاع عن يافا»
في يافا، بدا المشهد مختلفاً. المدينة التي يحاول الاحتلال تصديرها إلى الخارج - في إطار مشروع «الهسباراه» (الدعاية) - كمنطقة نموذجية لـ«التعايش» بين فلسطينيي الـ48 والإسرائيليين، طفت فيها العلاقات المشحونة على السطح عند أوّل مواجهة. يشير ابن يافا، عبد أبو شحادة، إلى أنه في مدينته تشكّلت إبّان الهبّة لجنة عُرفت باسم «لجنة الدفاع»، موضحاً أنها كانت «بمثابة هيكل جمع مختلف التيّارات السياسية والمؤسّساتية والناشطين». ويلفت إلى أن «دورها كان مهمّاً على مستوى تنظيم التظاهرات، والالتحام مع القرارات القُطرية للجنة المتابعة كالإضراب العام والتظاهرات المركزية، وأيضاً في توثيق الأحداث». ويتابع أبو شحادة، في حديثه إلى «الأخبار»، أن واحداً من التحدّيات المهمّة آنذاك تمثّل في الاتفاق على «إيش بدنا نقول»، بمعنى «أيّ سردية لنا؟ لأنه، ومن تجارب سابقة، دائماً ما تخرج الكثير من الأصوات. ولذلك، حاولنا في اللجنة أن يكون هناك صوت واحد جامع للكل. كما نجحنا على صعيد آخر، وإن بشكل جزئي، في مرافقة المعتقلين ومساعدة العائلات التي طاولتها الاعتداءات الإسرائيلية». أمّا ما يميز لجنة «الدفاع عن يافا»، فهو، بحسب أبو شحادة، التقسيم والمأسسة على مستوى الأمور التنظيمية؛ حيث «انبثقت لجان للمالية، وأخرى إعلامية، وواحدة للمحامين، وهو ما كانت له أهمّيته على مستوى الاستجابة والتعامل مع الحدث وتبعاته».
وعلى رغم أن يافا مصنَّفة من قِبَل الاحتلال كـ«منطقة ساخنة»، تماماً كما اللد وعكا، إلا أن أبو شحادة يبيّن أنه «بخلاف ما يُصوّر عن أن وجود النواة التوراتية في قلب حيّ العجمي كان وراء تصعيد الأمور، إلّا أن المشكلة في يافا هي مشكلة بنيوية مؤسّساتية على كلّ المستويات، وفي مقدّمتها الحق في السكن والتخطيط، وكيف تُعامل السلطات الإسرائيلية الفلسطينيين». وفي هذا الإطار، يستذكر ابن يافا، الذي كان شاهداً في قاعة المحكمة خلال محاكمة أحد المعتقلين الفلسطينيين، كيف وقف شرطي إسرائيلي أمام القاضي وقال: «لن نسمح بالاعتداء على أيّ مواطن يهودي»، مشيراً إلى أن هذه «عيّنة من المشكلة البنيوية حين تفهم الشرطة أن مهمّتها هي حماية اليهود وليس ما يُصوّر أنهم مواطنون».
ويشرح أبو شحادة ما شهدته يافا إبّان الهبّة بالقول: «إننا أمام سيرورة تاريخية تتكرّر منذ السبعينيات بأشكال مختلفة؛ إذ إن الجيل الأول للنكبة، بعد توقيع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، وجد نفسه في مرحلة من (الإفوريا)، تلتها قوانين عنصرية استعمارية أيقظت هؤلاء، لتكون المواجهة الأولى في يوم الأرض عام 1976. ثمّ أتت مرحلة أوسلو، حيث دعم النواب العرب في الكنيست حكومة رابين، ثمّ صوّتوا لباراك، وبعد كلّ الحديث عن إمكانية السلام اقتحم شارون الأقصى، وأفهم الاحتلال الجيل الثاني بعد النكبة أنه غير معنيّ بإقامة علاقات طبيعية مع شعوب المنطقة، ثمّ اندلعت الانتفاضة الثانية». أمّا هبّة أيار، فقد «أتت في سياق مرحلة شبيهة، حيث أطلّ علينا منصور عباس متحالفاً مع حكومة اليمين الصهيوني، فيما أقرّ الاحتلال قوانين استعمارية تتعلق بالشيخ جرّاح وباب العمود، مذكّراً الجيل الثالث للنكبة بأن إسرائيل مش ممكن ترضى عنا»، كما يقول.

استثمرت سلطات الاحتلال كلّ إمكاناتها لتخويف الفلسطينيين في اللد وردعهم


على رغم كلّ ما تَقدّم، بدت يافا غائبة عن مشهد التفاعل مع الأحداث الأخيرة في القدس والضفة، فما السبب في ذلك؟ يجيب أبو شحادة بأن «ردود فعل الاحتلال ومجتمعه تجاه الفلسطينيين في يافا هي أسوأ ممّا يعرفه الناس. فمنذ هبّة أيار إلى اليوم، النساء المحجّبات لا يستقلِلْن الحافلات (خوفاً من اعتداء الإسرائيليين عليهنّ). كما أن ثمّة مقاطعة اقتصادية من قِبَل اليهود للمصالح التجارية الفلسطينية. فضلاً عن ذلك، فإن عدد الشباب الذين اعتُقلوا، والضرر الذي طاول العائلات في ظلّ فقداننا لمؤسّساتنا القوية، كانا كبيريْن. ولنكن صريحين، وبعيداً عن الرومنسيات، لا نفَس طويلاً لدينا. فالأمر مرهق ومكلف، ومن الصعب أن تبقى طوال الوقت في المواجهة، وتعمل على تجميع الأموال لتدفع أتعاب المحامين». ويضيف أنه منذ بداية نيسان الماضي، «حوّل الاحتلال يافا إلى ثكنة عسكرية، حيث انتشر مئات وربّما آلاف الجنود وعناصر الشرطة في المدينة، في حين أن كلّ من يفكّر في تنظيم تظاهرة أو الدعوة إليها تستدعيه مخابرات الاحتلال على الفور. وبرأيي، هذا ما جعل الناس يحجمون عن الخروج، وخصوصاً أبناء الطبقات المسحوقة الذين تُركوا يدفعون الثمن وحدهم».
أمّا في مدينة طمرة الواقعة في الجليل، فيؤكد رئيس اللجنة الشعبية هناك، محمد صبح، أن الهبّة كانت «شعبية بامتياز»، مشيراً إلى أن تداخل اللجان والحراكات الشبابية «ساهم في تنظيم الهبّة إلى حدّ معيّن وإطالتها». ويبيّن أن حضور أعضاء اللجنة الدائم شكّل «رافعة لاستمرار الحراك الشعبي من جهة، ودرع حماية للمشاركين من الشرطة التي شنّت حملات اعتقال واسعة ضدّهم من أجل ترهيبهم». وعن كيفية الاستعداد للتعامل مع أيّ حدث مشابه مستقبلاً، يلفت صبح إلى أنه «في طمرة وفي عدّة مناطق أخرى، قمنا بتشكيل مجموعة من المحامين والحقوقيين من أجل الدفاع عن المعتقلين بشكل تطوّعي، كما شُكّلت لجنة قُطرية مركزية عامّة لمتابعة هذه القضايا، لكن كمية الاعتقالات كانت كبيرة، حيث اضطررنا إلى توسيع هذه اللجان التي عملت بشكل منظّم أكثر بعد الهبّة. هناك بالطبع استنتاجات واستخلاص عِبَر من هذه التجربة، ونحن اليوم أقوى وأكثر جهوزية لمواجهة حالات مشابهة مستقبلاً». ويضيف صبح أنه على الرغم من بقاء سبعة معتقلين من المدينة إلى الآن في السجون حيث يواجهون لوائح اتّهام مضخمة، «كانت هناك مشاركة كبيرة من أهالي المدينة في الرباط في الأقصى أخيراً». وإذ يعتقد أن اعتقال أكثر من ثلاثة آلاف فلسطيني من الداخل «ردَع إلى حدّ ما بعض الشباب عن المشاركة في التظاهرات أو الاحتجاجات الأخيرة»، إلّا أنه يَعتبر أن «هذا التأثير محدود وسرعان ما سيتلاشى، وهو ما ثبت أيضاً بعد الانتفاضة الثانية».

«اللدّ تلتقط أنفاسها»
«لا تزال هجمات المستوطنين ماثلة أمامنا. قنابل الغاز والهلع، برائحتها وأصواتها، تبدو وكأنها أُلقيت علينا للتوّ. نَذكر اقتحام مئات من القوات الخاصة المدينة، واعتقال مئات الشبان. وبعد مرور عام على ما حصل، لا يزال الناس متوجّسين ومتوتّرين وخصوصاً عند كلّ اقتحام لقوات الشرطة». هكذا يصف عضو اللجنة الشعبية في اللد، غسان منيّر، الوضع في مدينته بعد عام على الهَبّة. يبيّن منيّر، في حديث إلى «الأخبار»، أن اندفاع المحامين للدفاع عن المعتقلين «لم يكن عفوياً، بل كان منظّماً؛ حيث قامت اللجنة بتسجيل كلّ المعتقلين في قوائم... توجّهنا إلى عائلاتهم، وقمنا بجمع التبرّعات ودفع الغرامات. أمّا هبة الشباب فكانت عفوية وغير منظّمة وجاءت في معرض الدفاع عن النفس أمام قطعان المستوطنين المسلّحين الذين هجموا علينا بحجّة فرض الأمن والنظام». ويضيف «(أننا) عملنا على متابعة المشاكل ومحاولة التصدّي لها شعبياً وقانونياً»، متابعاً أن اللجنة «لعبت دوراً محورياً في محاولة السيطرة على الأمور ومنع تدهورها في اللد، كما أنها أمدّت العائلات ومَن تواجد في محيط المسجد العمري (الذي استُهدف من قِبَل المستوطنين) بالطعام، وعملت على نشر الرواية الفلسطينية للحدث ودحض الرواية الإسرائيلية التي وصفت الشباب بالمجرمين والإرهابيين».
وتعليقاً على ما ذكره أكثر من تقرير إسرائيلي حول استعدادات ميليشيات استيطانية، تسليحاً وتدريباً، للهجوم على الفلسطينيين في اللد في حال تجدُّد المواجهة، يشير منيّر إلى أنه «ليس لدينا جيش أو شرطة تحمينا ولا تنظيم أمني. ونعْلم جيداً نيّة المستوطنين تنظيم أنفسهم في ما يشبه الميليشيات الشعبية لإقامة دوريات في الأحياء الفلسطينية في المدينة. هذا أمر خطير جدّاً، ونرفضه، ولا نريد أن يتطوّر إلى مناوشات أو صدامات مسلّحة». وكما يافا، لم تُلحظ في اللد أيّ ردود فعل على ما حصل في الشهرَين الأخيرَين، فيَلفت منيّر إلى أن «الناس هنا عانوا صدمة نتيجة الهجمة الشرسة من المستوطنين، فضلاً عن انشغالهم إلى الآن بتوفير الدعم القانوني، وتنظيم حملات جمع التبرّعات لدفع تكاليف المحاكمات. الناس يريدون التقاط أنفاسهم بعد كلّ ما حصل. ولا ننسى أن السلطات وأجهزتها الأمنية استثمرت كلّ إمكاناتها لتخويف وردع الفلسطينيين في المدينة، وثنيهم عن المشاركة في أيّ عمل شعبي أو تظاهرة».