الوصول إلى البحر هو أكثر من مجرّد حق الوصول إلى الموارد الطبيعية. هو حق جماعي وغيابه يحدّد علاقتنا بالمكان. عند الدخول إلى مخيم الرشيدية، كان لافتاً التناقض بين انفتاح المكان على البحر والحقول الزراعية المجاورة مع مدخل المخيم الذي هو عبارة عن نقطة تفتيش للجيش ونقاط المراقبة التي تصل حتى شاطئ البحر. البحر هنا قمع ملثّم وحرّية وهمية. «لا مكان للإبحار»، يقول الصياد محمد غالب. وجد الصيادون الفلسطينيون في لبنان أنفسهم أمام أزمتين: الأولى «كونهم لاجئين»، والثانية الارتفاع «الجنوني» للدولار مقابل الليرة اللبنانية. ما يعني زيادة أسعار معدات الصيد من شباك و«تقّال» وزيادة في أسعار المازوت والبنزين لتحريك «الشختورة» يومياً.
يشكو الصيّادون: «كلو خسارة بخسارة، والأمل متروك عالبحر»، بحسب تعبير غالب. أبحر أمس على شاطئ مخيم الرشيدية، فلم يجد إلا سمكتين بعد أسبوعين من «تبييت» الشباك. «نتحدى الملاحقات بسبب عدم قانونية الصيد لمن لا يملك بطاقة بحرية، وجميعنا هنا لا نملكها لأن الدولة اللبنانية قررت عدم منحها»، هكذا يصوّر عملية الصيد التي «لا تردّ تعبها والمال الذي نصرفه يومياً لنصل إلى بضعة الأمتار في البحر». عاد غالب إلى منزله مبيّتاً شباكه بعد 10 ساعات من العمل لبيع الغلة بـ200 ألف ليرة لبنانية. هذه البقعة لا تصلح للصيد بعد تعرّض شاطئ صور، ومن ضمنه شاطئ الرشيدية، إلى عملية شفط الرمول خلال الحرب الأهلية وتم ردمه من مخلفات المخيم وتحويله إلى مكب نفايات المخيم مع غياب التنظيف من قبل وكالة «الأونروا». رغم هذا الواقع فإن غالب يقول: «هذا البحر لي»، معبّراً عن المساحة الوحيدة التي يمكن أن يرى من خلالها فلسطين. ويضيف: «بحصار المخيمات لولا البحر لكان الناس ماتوا جوعاً وحزناً».
تزداد أزمة الصيد البحري حدّة. ففي حين كان يُعتبر مخيم نهر البارد هو واجهة المخيمات الفلسطينية على البحر ومقصد منطقة الشمال لبيع السمك، لجأ الصيادون إلى ميناء العبدة بعد الأحداث العسكرية في المخيم. مُنع الصيّادون من الاقتراب من شاطئ المخيم وسُحبت «بطاقات البحرية» منهم، ما جعل أكثر من 100 صياد يلجأون إلى ميناء العبدة للإبحار والصيد. يجمع القارب من 4 إلى 5 صيادين في رحلة الصيد. صيادو المخيم لا يمكنهم اقتناء قارب صغير لأنه يحتاج إلى رخصة والفلسطيني ممنوع منها، وفي حال سُمح له يكون 51% منه مسجّلاً باسم لبناني. هذا المخيم الذي كان يملك سوقاً للسمك أصبح يشتري أهله الأسماك من سوق العبدة وبيعها داخل المخيم.
رغم هذا الواقع فإن غالب يقول: «هذا البحر لي» معبّراً عن المساحة الوحيدة التي يمكن أن يرى من خلالها فلسطين


«أصبح الصيّاد هو السمكة التي غرقت في الوحول»، هكذا يعبّر نقيب الصيادين الفلسطينيين السابق عبد الحافظ حسن عن الدوامة التي وقع فيها الصيّادون، إذ لا يمكنهم ترك هذه المهنة، إذ في الوقت نفسه لا تجلب لهم مصاريف يومهم. «لا يمكن مقارنة الصيّاد اللبناني بالفلسطيني فرغم الأزمة الاقتصادية وارتفاع سعر المحروقات والشباك التي بات يكلف إصلاحها 100 دولار وارتفاع تكاليف الصيد بأكثر من 1000% مقابل زيادة 30% على سعر السمك، فإن وقع الأزمة على الفلسطيني تُضرب بعشرة أضعاف». فالفلسطيني، بحسب حسن، «لا يمكنه الانضمام إلى النقابة التي تضمن حقوقه وتقدم بعض المساعدات في حال الأزمات وشحّ الصيد وفي حال حصول أي ضرر يتحمّله على نفقته الخاصة، في وقت تقدم فيه النقابة للصيادين اللبنانيين مساعدات نقدية وعينية وتؤمن مساعدات من مؤسسات دولية ومحلية وبطاقة بحرية تسمح لهم بالإبحار إلى مسافات أبعد، ما يمكنهم من زيادة محصولهم، كما تغطي تكاليف علاجهم في حال تعرضوا لأي إصابة». هذه العراقيل تتفاقم مع كل أزمة أمنية يمكن أن تعصف بالشمال، إذ ربما يتوقف كل الصيادين الفلسطينيين عن الصيد لمدة قد تزيد عن شهر.
الوضع ليس أحسن الآن في ميناء صيدا، سوى أن الصياد الفلسطيني يحظى بقبول أكبر لدى الزملاء اللبنانيين. يعتبر الصيّاد الفلسطيني محمد حسن، من صيدا، أن النقابة الفلسطينية «ليست سوى منظر» إذ لا تقدم أي مساعدات أو دعم للصيادين. «ما بتوفّي معنا»، يكرر الصيّادون كلما بدأوا الحديث عن سعر السمك في الأسواق. وفي حديث مع نقيب الصيادين اللبنانيين في صيدا نزيه سنبل، يعتبر أن النقابة هي من تغطي عدم شرعية الصيادين الفلسطينيين، فأغلب هؤلاء الصيّادين هم «صيّادون بالوراثة». ويعتبر أن سبباً من أسباب الأزمة الحالية في شحّ الصيد في أغلب الساحل اللبناني هو كثرة الصيّادين وتجمّعهم في منطقة معيّنة، فنجد أن عدداً كبيراً منهم لا يقومون برحلات صيد يومية، فالرحلات تتم بالمداورة بالإضافة إلى شح الأسماك نتيجة تغيّر المناخ، في وقت كانت تدخل فيه أطنان السمك إلى سوق صيدا.
الصيّادون يواجهون يومياً البحر من أمامهم والقمع من خلفهم ويسيرون إلى مصير مجهول، في ظل غياب تام لدور «الأونروا» في متابعة قطاع الصيّادين اللاجئين، والانقسام الفلسطيني الحادّ الذي جعل منصب نقيب الصيّادين شاغراً منذ عام 2019.