لم يكن المشهد عليّ غريباً. حتى صور الشوارع التي شاهدتها عبر شاشة التلفاز، ركض الصحافي المراسل والمصور، الأمهات الحاملات لأطفالهن في الشوارع، حالة الصدمة والخوف التي تراها في عيون الناس، وغيرها من المشاهد، كلّها تفاصيل عايشتها سابقاً، وكنت جزءاً منها على مدار أيام طويلة. أذكر أن القدر، بعد قصف مقر المؤسسة التي أعمل بها في غزة خلال عدوان 2021، وضعني وزملائي أمام إحدى ثلاجات الموتى بعدما لجأنا إلى مستشفى الشفاء، باعتباره المكان الآمن لنا ولجميع الصحافيين العاملين في الميدان. كنت أرى نهاية المشاهد المأساوية، صراخاً ونداء على شخص فارق الحياة، بل رجاء له بالعودة إلى الحياة مجدداً من دون جدوى. كل تلك الأحداث ما كانت لتؤثر بي. لا أعلم ما السبب. ربما كانت المعايشة، وقد أصبحت وأمسيت جزءاً من الصورة البانورامية الكاملة، فأنت ترى الضحايا، وبعد وقت، ولسبب ما، ربما ستكون أحدهم. أذكر أنني وقفت أمام الكاميرا، أعلنت أن شهيدين ارتقيا نتيجة القصف على شمال مدينة رفح جنوب قطاع غزة. الشهيدان كانا من أبناء عمومتي، جمعتني بهما ضحكات في كثير من المواقف، ومع ذلك، لم تصبني حالة كالتي كنت عليها أثناء الحرب على غزة وأنا خارجها. هناك تشعر، ولكنك لا تتحرّك ولا تبدي أي استجابة لما ألمّ بك وسكنك من طارئ، لعل تسارع الأحداث وعدد الشهداء الكبير يصيبك بشيء من عدم المبالاة.
اليوم، الجسد في بيروت، وقبل أقل من عام كان في غزة. بدا الشعور مُتعباً بلا حد، هي الحرب، الحرب وما تحمله من حقائق موجعة، الحرب التي تدفعك رغماً عنك إلى لملمة نفسك أمام المجريات المتواترة تباعاً، كلها لا تحمل إلا الألم.
في الدقائق الأولى للعدوان الأخير على غزة، كنت أجلس في غرفة المذيعين استعداداً للعمل اليومي المعتاد، أتصفّح جهازي الخليوي، حينها دار الحديث عن انفجار وقع في إحدى الشقق السكنية بغزة. المشهد المتوتر أعطاني إشارة إلى أن ما جرى هو استهداف، إلى أن تأكد الخبر بعد لحظات قليلة. بحسب الإعلام، كان استهدافاً نفذته طائرات الاحتلال، بالنسبة لي كان اغتيالاً لشخصية قيادية، فأنا أعلم ماذا يعني تنفيذ ضربة في ذلك الوقت الحساس وبالتحديد لشقة سكنية.
دخلت الاستديو وقلت لمن يتواجد في قسم الكونترول «والله، تم اغتيال أحدهم»، هنا أصبحت بين واقعين، العمل من جهة ومن أخرى الحدث على الأرض، وأسئلة كثيرة دارت في ذهني حينها. لحظات صعبة وقاسية صاحبتها تعابير بدت واضحة على وجهي، وكشفت بداية انطلاق التغطية بالتلعثم وعدم التركيز، حتى اسم المراسل الذي أحفظه جيداً كأنني نسيته أو أنني أعرفه لأول مرة. بعد ساعات انتهت التغطية، انطلقت سريعاً إلى المنزل وهناك تحوّل المشهد تماماً.
رسالة واحدة كانت كفيلة لهروب النوم من عيني نتيجة التعب. رسالة من حبيب لا أستطيع الكذب عليه، وتمرير الرد برسالة أخرى إليه تنهي كل شيء في وقته، رسالة تسألني عن أهلي، هل هم بخير؟ أسمعت قبل ذلك عن الاتفاق الضمني؟ هذا الذي يعقد بين اثنين بنظرات العيون وإيماءات الوجه، هو فعلاً ما كان. في الحرب الماضية ذات الأحد عشر يوماً على غزة عملت صحافياً في الميدان، لم أتصل بأمي على وجه التحديد ولم تتصل بي، هي سلمتني لله، وأنا وفرت عليها الكثير من الدموع وشد الأعصاب، يكفيها أنها كانت ترى وتتابع ابنها في زحمة أحداث قاتلة للروح.
في هذه الحرب، كان الاتصال بالأهل يعني الدخول في حديث لا داعي له، كل منا يعرف أمّه، ويعرف كيف تتحدث، وكيف تخفف من وقع الأحداث، حتى لو على حساب نفسها، حينها وصلت إلى نتيجة واحدة فقط، هي أن استودعتهم الله.
في اليوم الثاني، دخلت في موجة جديدة من التفكير والتوقع، شعرت أن الاتصال مع تصاعد الأحداث بدا أمراً ملحاً. اتصلت، ظهرت شخصاً متماسكاً، أتحدّث بكل هدوء من دون انفعال، لكن داخلي يبدو غير ذلك. تبادلنا أطراف الحديث وكأن الحرب لم تقع، كلانا كان متفهّماً لذلك. خلال الاتصال طلبت من أخي الصغير عدم الخروج من المنزل لخوفي عليه، وكانت نهاية الاتصال «الله معكم».
ما هي إلا ساعة، أو أكثر بقليل، حتى سوت طائرات الاحتلال عدداً من المنازل بالأرض في مكان لا يبعد عن منزلنا سوى اثنين أو ثلاثة كيلومترات. عدد من الشهداء والإصابات. حين وصول الخبر تتمنّى لو أن ما جرى هو كابوس ستستيقظ منه بعد وقت، حينها قلت: لا أريد الاتصال بأحد، ولكن فعلت.