لا يرحل الشهداء، تظل أصواتهم ندية، وذاكرتنا عنهم نقية من كل ما كان، لا نعرفهم، لكننا ندركهم، وندرك معهم أنفسنا، كيف نعيش، وكيف نموت لنحيا.إبراهيم النابلسي، ومن معه، ومن قبله، ومن سيليه من الشهداء، سيرة من حكايتنا الطويلة في البلاد القريبة البعيدة. كأن هذه السيرة التي بدأت لتنتهي يوماً، تحكمنا بالنجاة دوماً من فعل الموت الحقيقي، فالذين يستشهدون، لا يرفع واحدهم روحه، إلا لنقيم بلاداً لبلادنا، تتعمّر من أجسادهم وضحكاتهم وأصواتهم قبل الصعود.
(أ ف ب )

إبراهيم الذي اختلفت البيانات حول عمره، بعضها قال 19 عاماً، وبعضها 26 عاماً، لم تختلف على قيمة الشهادة والشهيد، ولا دورنا كشهود نعيش بانتظار الحياة «فإما حياة تسر الصديق، وإما ممات يغيظ العدى».
ويتمكن الشهداء، لا أعلم كيف، من غيظ العدو، من فوق الأرض، وهم تحتها، بفعلهم في البداية، وبصورهم، تلك الصور التي لا تتوقف تضحك، ولا يتوقف الشهيد فيها عن البطولة والصراخ بوجه قاتله «نسيت مثلك أن أموت».
الصور التي اعتدنا نحن الفلسطينيون على تعليقها في شوارعنا وأزقة مخيماتنا، تكاد تكون الفسحة الوحيدة للحياة، فهي ليست الورق على الحائط الذي سيتلف من المطر بعد حين، هي في الواقع، صوت الشهيد الذي ينادي باستمرار «تحيا الحياة»، الصوت الذي يتوارد إلى العيون في ابتسامته الصارخة بوجوه الساكنين والعابرين، والمستكينين للاستلام، بأن لا عودة إلى الضفاف، والحدود المغلقة، ستبقى مغلقة حتى النهاية، تلك الصور، صور الشهداء، تقول لنا جميعاً، إن إسرائيل، ستخرج «من أرضنا... من بحرنا... من قمحنا... من ملحنا... من جرحنا... من كل شيء».
كم واحد منا تمنى ويتمنى أن يكون مثلك، ليس لأنك إبراهيم، بل لأنك إبراهيم الفدائي، الذي خرج في التشييع وسط نابلس، غير خائف من «جيش إسرائيل»


سمعنا جميعاً وصية إبراهيم، صوته لم يكن صوت البطل الرعديد، كان الصوت لطفل يولد من جديد «أنا استشهدت»، لم يكن قد استشهد بعد، كان كأنه يرى، لم يكن في هذه اللحظة يستسلم، كان بوسعه أن يفعلها، وينتهي كل شيء، ويبقى مثلنا على قيد العيش. لكنه أكمل كلامه، ذكر أمه، كان إبراهيم يولد من جديد، كانت تلك اللحظة، لحظة توهج وإدراك عال للوجود، لوجوده في فلسطين، لإيمانه بالبندقية التي لم تفارقه يبدو. أكمل إبراهيم وصيته وقال «ما حدا يترك البارودة».
يا إبراهيم، يا صرختنا، يا بسمتنا، يا حلمنا في الواقع وفي الحلم، لن نترك «البارودة»، أتعلم يا صديقي، ولربما لم تكن تدري، ولربما وأنت في العلياء تعرف، أن ما قلته، صار رمزاً جديداً يضاف إلى قائمة من الكلمات التي تؤكد على الطريق الذي عبرت منه إلى مكان جديد.
يا إبراهيم، لو تدري كم كان الحب كبيراً لك، كم ذكرك الناس، وكم سيذكرونك ويتذكرونك، وكم سيحلمون بك، وكم واحد منا تمنى ويتمنى أن يكون مثلك، ليس لأنك إبراهيم، بل لأنك إبراهيم الفدائي، الذي خرج في التشييع وسط نابلس، غير خائف من «جيش إسرائيل»، ولن أقول متحدياً، فأنت تتحدى نفسك، لا تتحداهم، لأنك لا تراهم، لأنك وأنت من أنت، واجهتهم وقاتلتهم، وحين استشهدت، خرجت أمك كما علمتك، رعديدة بطلة، ولن أقول عنها كما يقال عادة «علمتنا» هي ككل أم تفقد ابنها، تبكي، تحزن، تتألم، لكنها ككل أم شهيد، تفكر بأمهات أخريات سيستشهد أبناؤهن بعد ابنها، وعليهن أن يبقين صامدات، خالدات.
فيا إبراهيم، في تشييعك، أنت لم ترحل، أنت انتقلت من مكان إلى آخر، لتستمر في نضالك أيها الفدائي، أيها الرجل الذي حملتنا في جنازتك على أكفك لنفهم ما ناديت به في وصيتك، ورفعتنا لنرى مستقبلنا القريب، فلسطين.
فيا إبراهيم، إن نمت قليلاً، لا تقلق علينا، أعلم أن أخاك محمد حرز الله، جريح في المستشفى حتى اليوم، بعد إصابته في الاشتباك الذي حصل قبل نحو شهر في نابلس القديمة، وأعلم أنك قلق عليه، لكن يا صديقي الجميل، محمد سينهض من جديد، وسينهض من شعبنا ومن الأحرار مثلكما، إبراهيم ومحمد وآلاف من الفدائيين، فلا تقلق، ونم قليلاً لتستريح، ريثما نصل إليك.