منذ احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة، عملت دولة الاحتلال على تنظيم وضبط حركة الفلسطينيين، سواء كانت الداخلية، أو في تواصلهم مع العالم الخارجي؛ أقرّت نظام التصريح العسكري، للراغبين في السفر إلى الأردن ومصر، فأنشأت المعابر الداخلية، وورثت المعابر الخارجية. والهدف الأساسي والمركزي هو فرض نظام السيطرة الكامل على حركة الأجساد، بعد أن صنّفت الفلسطينيين، وفق قوائم خاصة بها، تصنيفاً أمنياً هدفه الحد من حركة الجميع للتأكيد على السيطرة، وعلى وجه الخصوص بعض الفئات من الفلسطينيين تصنفهم سلطات الاحتلال بأنهم يشكّلون خطراً أمنياً عليها. وهؤلاء يشملهم الحظر والمنع الأمني من استخدام تلك المعابر، سواء الداخلية التي تفصل غزة والضفة عن مناطق الـ48، أو التي تفصل غزة عن مصر، والضفة عن الأردن.
تعدّدت الإجراءات والاحتلال واحد
سعت دولة الاحتلال، منذ العام 1967 وحتى الآن، في استخدام المعابر كوسيلة ابتزاز ضد الفلسطينيين، أفراداً وجماعات. هذا الابتزاز يبلغ ذروته أحياناً بإغلاق كل المعابر أمام حركة الفلسطينيين، سواء في الأعياد اليهودية، أو عند كل حدث أمني مفصلي كما تبرّر دولة الاحتلال.
لقد تعدّدت الإجراءات الاحتلالية وتنوّعت باستخدام المعابر كعقاب جماعي ضد الفلسطينيين أو كعقاب فردي. واللافت في الأمر أن لمصر أيضاً نفس السياسات التضييقية على الفلسطينيين بما خص معبر رفح البري، حيث رسمت سياسات عامة في تعاملها مع الغزيين، وبخاصة بعد انسحاب الاحتلال من قطاع غزة في العام 2005، عبر ضبط حركة الغزيين، من خلال نظام تصنيفي سمحت بموجبه لبعض الفلسطينيين بالعبور إلى مصر.

الانتفاضة الأولى وفصل الضفة وغزة
مع اندلاع انتفاضة الحجارة أخذت الإجراءات الاحتلالية العقابية ذروتها، حيث أقدمت سلطات الاحتلال على إغلاق معبر إيرز (بيت حانون)، وفرضت نظام التصاريح على الغزيين الذين صنفوا وفق قوائم أمنية، سمحت للبعض باستعمال المعبر، سواء للعمل داخل أراضي الـ48، أو للعبور إلى الأردن.
الإجراء أنشأ أزمة متعددة الأبعاد؛ بين السلطة والأردن، من جهة، وبين الأردن ودولة الاحتلال، من جهة أخرى


في المقابل، فرضت طوقاً أمنياً على الضفة الغربية، وأقرّت نفس النظام، قبل أن تقوم بعدها بسنوات ببناء الجدار العازل، وإنشاء المعابر عليه.
وعلى الرغم من أن هذه الإجراءات التي أقدمت عليها سلطات الاحتلال كانت إجراءات عقابية هدفها الأساسي خنق حياة الفلسطينيين، فإنها كانت تقدم رواية أخرى للعالم الخارجي، أنها تسعى لإيجاد صيغة للحل النهائي مع الفلسطينيين، عبر الانفصال عنهم. لكن التجربة أثبتت أن المعابر الداخلية والخارجية لا تزال تحت السيطرة الاحتلالية الكاملة، من كلا الاتجاهين.

انتفاضة الأقصى وعودة الإجراءات العقابية
مع اندلاع انتفاضة الأقصى أغلقت دولة الاحتلال بشكل شبه كامل المعابر الداخلية والخارجية وفرضت طوقاً أمنياً كاملاً على الضفة وغزة، في محاولة منها للمساومة الفلسطينيين، بين إنهاء انتفاضتهم مقابل عودة الحياة الاقتصادية الطبيعية، فأصبح مفهوم الاقتصاد مقابل الهدوء، سياسة عامة في صلب عقيدة الاحتلال.

ما الذي تغيّر الآن؟
قبل أيام، جرت أول رحلة طيران من مطار رامون في أقصى جنوب فلسطين، حيث أقلّت طائرة إسرائيلية عدداً من رجال الأعمال الفلسطينيين إلى جزيرة قبرص اليونانية، في أول رحلة تجريبية، هدفها السماح للفلسطينيين باستخدام هذا المطار مستقبلاً. لكن هذا الإجراء أنشأ أزمة متعددة الأبعاد؛ بين السلطة والأردن، من جهة، وبين الأردن ودولة الاحتلال، من جهة أخرى. أدركت السلطات الأردنية أن سماح الاحتلال للفلسطينيين باستخدام هذا المطار، سيؤدي حتماً إلى توجيه ضربة اقتصادية كبرى لقطاعات واسعة من الاقتصاد الأردني، الذي يعتمد على مرور نصف مليون فلسطيني عبر «جسر الكرامة» متوجهين إلى الأردن، وما يوفّره هذا الانتقال من عائدات مالية تقدّر بمئات الملايين من الدولارات سنوياً، بالإضافة إلى الاعتبار السياسي، حيث أن الأردن يمتلك تأثيراً على الملف الفلسطيني بحكم الجوار وله مشاركة واسعة مع الفلسطينيين في إدارة الملف السياسي مع دولة الاحتلال.
في المحصلة، وعبر تجربة ممتدة لأكثر من خمسين عاماً، أثبت الاحتلال أنه يتعامل مع الكل الفلسطيني كحالات أمنية، فاقدين لأي شكل قانوني يحترم فيه مواطنيتهم وآدميتهم، فهم مجرّد سكان، وربما مقيمين في أبعد تقدير، أما حقوق المواطنة فهي فقط للإسرائيليين، وكل ما عداهم مجرد غرباء، لا يمتلكون الحق في السفر والتنقّل حتى بين مدنهم وقراهم. المعابر الداخلية، التي تقدّر بأكثر من عشرين معبراً، مضاف إليها مئات الحواجز العسكرية، تعمل بنظام واحد، أنتجته العقلية الاستعمارية، لتذكير أهل الأرض بشكل دائم أنهم تحت رحمة الاحتلال. وقد وصفته المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، أنه «نظام الأبارتهايد» بنكهة إسرائيلية، ومن دون روادع. فالاحتلال، الذي استولى على الأرض، يواصل قهر الفلسطينيين، عبر السيطرة على سجل السكان، وهو الوحيد الذي يعد الولادات والوفيات في دفاتره، يرقب نموهم وتكاثرهم، وخياراتهم الشخصية، هذا هو الاحتلال، بعيداً من كل المسميات الأخرى، حيث يرفض حتى هذه اللحظة الاعتراف أن شعباً ومجتمعاً يحمل هوية جمعية واحدة، يعيش في بلاده، سهلاً وجبلاً، مدينة وقرية، يعيش منذ آلاف السنين على هذه الأرض.