{إنني أقف مسلّحاً بما هو أقوى من السيف الصارم، ألا وهو عدالة قضيّتي}من مسرحيّة {نطاق الشهوة} للشاعر الإنكليزي كريستوفر مارلو

منذ أعوام، وفي شهر أيلول، يخاطب الرئيس الفلسطيني محمود عباس العالم لنيل الحقوق ورفع الظلم. هو لم يملّ، والمجتمع الدولي «الكذبة» يصفّق له من دون أن يفهمه. لأن لا أحد ينصت لمن ليس لديه أوراق قوة ضاغطة. فمن وضع القانون الدولي هو الرابح في الحرب العالمية، ويمكن تطويع هذا القانون وفق مصالح الرابحين. وبكل تأكيد إسرائيل هي مصلحة غربية على أرض عربية ولو انتهكت الشرعية الدولية كل يوم.
ومما لا شك فيه أن خطاب عباس الأخير أثار العديد من الانتقادات. أما إذا تحدثنا بموضوعية تامة، فهذا الخطاب أسّس مرحلة جديدة بالعمل السياسي. أعلن أبو مازن بطريقة غير مباشرة نهاية اتفاق أوسلو، وأصبح يتعامل مع إسرائيل كدولة تحتل دولة. وبعيداً عن المرافعة المهمة التاريخية والسياسية والقانونية؛ أعطى عباس الضوء الأخضر لبداية فك الارتباط بدولة الاحتلال والاتفاقات معه. وبما أنه اعتبر إسرائيل لم تعد شريكاً في عملية التسوية، فالطلب بعضوية كاملة لفلسطين في الأمم المتحدة والتوجه للمؤسسات الدولية ولا سيما الجنائية الدولية ومنظمة الصحة العالمية ومنظمة الملكية الفكرية، ومنظمة الطيران المدني الدولي، يمثل تحدياً جديداً لإسرائيل ورعاتها الغربيين. والأهم هو طلب حماية دولية للشعب وأرض الدولة الموعودة.
أن يعود أبو مازن الى القرارين 181 و194، انقلاب واضح في التعاطي مع الرباعية الدولية والاحتلال. صحيح أنه يستند الى قرارات الأمم المتحدة (754 قراراً من الجمعية العامة، 97 قراراً صدرت من مجلس الأمن و96 قراراً صدرت من مجلس حقوق الإنسان. ولم يُنفّذ أي منها)، إلا أن الواقع على الأرض يفيد بأن الاحتلال سيُقدم على ضم الضفة الغربية بالقوة، ولا سيما مناطق أ، لأنه يريد إنهاء مشروع السلطة/ الدولة وبالتالي السيطرة الميدانية والأمنية. وبذلك يقطع الطريق على أي محاولة سياسية لبدء مفاوضات جديدة، وبدل أن تفاوضه لوقف الاستيطان وتفكيك المستوطنات تصبح مضطرةً إلى مفاوضته على الانسحاب من مناطق كانت تحت حكم السلطة. وما يفعله في مناطق شمال الضفة (ضمن مناطق أ) بداية خطة شاملة تضمن احتلال المدن، فعملية "كاسر الأمواج" مقدّمة لعملية «السور الواقي» الجديدة مع ضمان البقاء حيث يصل جنود الجيش والشاباك.
وسط ما يجري في الميدان، يقول الرئيس الفلسطيني: «لن نلجأ إلى السلاح والعنف ولن نلجأ إلى الإرهاب». هو يضع خطوطاً حمراً أمام العمل المسلح، لأنه يعرف الكلفة العالية السياسية والميدانية للمواجهة العسكرية. لكن من شوائب الخطاب أنه لم يتوجّه إلى الأمم المتحدة بما تضمّنه من مقاومة الاحتلال بالأشكال كافة. ويضمن القانون الدولي حق الدفاع عن النفس، وهذا كان من واجب عباس، أن يدافع عنه ويعطي غطاءً سياسياً لمن أراد رفع السلاح في وجه القوات الإسرائيلية المقتحمة يومياً شرق القدس والضفة الغربية. وهنا النقطة الأساسية حول غضب جزء من الشعب الفلسطيني من خطاب الرئيس، فهو خاطب العالم بخطاب قوي لا يملك قوة تُجبر الولايات المتحدة وإسرائيل على الخضوع السياسي. وبما أن شخصية أبو مازن لا تُحب الكلام الشعبوي والعاطفي، لم يستطع مدّ الجسور مع شعبه. فهو يتصرّف كرئيس دولة وليس كقائد ثورة، وهذا الفرق الشاسع بين المهمتين يجعل الناس يغضبون أكثر وأكثر عندما يوجه خطابه الى العالم من دون توجيه خطابه الى شعبه ومعرفة مزاجه العام.
في المقابل، سيجد أبو مازن نفسه مضطراً الى خطاب القوة أمام الاحتلال في المرحلة المقبلة، وإلى رفع معنويات شعبه والحفاظ، ولو قليلاً، على المشروعية الشعبية ولا سيما داخل قواعد حركة «فتح». وربما نجد عباس يفعل ما فعله سلفه الشهيد ياسر عرفات، ففي صيف 2001 أرسل «كاتم أسراره» فتحي البحرية، الى دمشق وبيروت والتقى الشهيد عماد مغنية، طالباً الدعم بالمال والسلاح بعدما أطلق الانتفاضة معلناً فشل المفاوضات، على الرغم من ارتفاع وتيرة الضغوط العربية والأميركية. وكان التعاون العسكري والأمني بداية معركة انتهت باستشهاد عرفات. الظروف نفسها والضغوط ذاتها على محمود عباس، والتاريخ يعيد تفاصيل تلك المرحلة. والفرق الوحيد هو بطريقة تعامل القيادة الفلسطينية، فعرفات اختار القوة في خطابه، أما عباس فيختار الخطاب من دون قوة حتى الآن.