لم تؤدّ عميلة «كاسر الأمواج» التي أطلقها الاحتلال في آذار الماضي، إلى نتائج ملموسة، لا على صعيد تخفيف حدة المواجهات التي يقودها الشباب الفلسطينيون التي أضحت عسكرية، يتكبّد فيها الاحتلال خسائر من جنوده ومن سمعة منظومته الأمنية، ولا على صعيد السيطرة على تمددها وتصاعدها على مستوى الشارع الفلسطيني، عبر انضمام مزيد من الشباب الفلسطينيين إلى هذه الظاهرة التي تشكلت أخيراً، سواء عبر كتائب «جنين» «طوباس» «طولكرم» أو «عرين الأسود» في نابلس، وما إعلان وزير حرب الاحتلال بني غانتس عن تمديد حالة التأهب والاستنفار إلى مطلع تشرين الثاني، موعد الانتخابات التشريعية الإسرائيلية، إلا تعبير واضح عن حالة القلق وعدم اليقين التي ترافق السلطة السياسية الحالية داخل الكيان؛ هذا الإعلان لم يخلُ من التوظيف السياسي، بإطلاقه من مستوطنة عتصيون، برفقة عدد من المسؤولين، إلا أنها محاولة يائسة لطمأنة المستوطنين بقوله: «واجب القوات الإسرائيلية هو تمكين الأمن والقضاء على التهديدات، وأن الجيش ملزم بذلك الأمر».ربما لا نستطيع حصر كل الأسباب التي دعت الشباب إلى أخذ زمام المبادرة في المواجهة الأخيرة مع الاحتلال، والتي يرجّح كثيرون أنها إرهاصات وإشارات قوية إلى انتفاضة ثالثة، لكنّ هناك إجماعاً على سببين مباشرين، أولهما فشل اتفاقية ومشروع أوسلو، عبر عدم إيفاء الاحتلال بأي من الاتفاقيات الموقّعة معه، وانسداد الأفق السياسي عبر إيقاف المفاوضات مع السلطة، واقتصار التعامل معها عبر بوابة "التنسيق الأمني" التي تخدم مصالح الاحتلال الأمنية على حساب المقاومة، ثانيهما، غطرسة واعتداءات الاحتلال، وخصوصاً المستوطنين في الضفة والقدس ومناطق الـ48، واستمرار المشروع الصهيوني في عموم فلسطين؛ كل هذا أوصل الشباب إلى قناعة تامة أن المقاومة هي السبيل الوحيد والدافع الملهم للخلاص من الاحتلال، وما المعارك التي خاضتها المقاومة أخيراً، «سيف القدس» سنة 2021 و«وحدة الساحات»، إلا حافز إضافي، وإسناد مهم لدى الشباب في مواجهة الاحتلال.

لماذا هذه الظاهرة فريدة؟
ليست الفرادة في كون الشباب الفلسطينيين يقاتلون ويستشهدون، فهذا أمر معهود في تاريخ النضال الطويل للشعب الفلسطيني، لكن من خلال المتابعة، نتلمّس ملامح هذه الفرادة، أن هذه التشكيلات فتية، تُراوح أعمارها نسبياً بين (18-25) عاماً، بمعنى أنها لم تعش ما يمكن اعتباره عدم تحقيق «انتفاضة الحجارة» سنة1987 أو «انتفاضة الأقصى» عام 2000، التحرير وزوال الاحتلال على الرغم من التضحيات الكبيرة، وبالتالي هذه التشكيلات تصنع وتعيش انتفاضتها، وتخوض تجربة من صنع يديها، وبالوقت نفسه، ليس لديها في الغالب أحمال الأسرة من زوجة وأولاد، بحيث يمكن أن يفكر الشاب مرتين قبل إقدامه على الانضمام إلى هذه التشكيلات.
ليست الفرادة في كون الشباب الفلسطينيين يقاتلون ويستشهدون، فهذا أمر معهود في تاريخ النضال الطويل للشعب الفلسطيني


كما تتميز بأنها غير تابعة لأي فصيل فلسطيني، وإن كانت هذه التشكيلات تنسب إلى سرايا القدس، أو حماس، أو شهداء الأقصى، إلا أنها لم تتخذ من الانتماء الحزبي سبباً موجباً أو مانعاً للانتماء إليها، أو التنسيق والعمل معاً، فالعنوان الأساسي هو مواجهة الاحتلال، والتصدي لاعتداءاته واقتحاماته، وبالتالي، هذه التشكيلات مشرعة أمام الشباب الفلسطينيين، أياً كان توجههم السياسي، وهي بمعنى آخر، عابرة للتوجهات الفصائلية بل حتى تجاوزتها، وهي بذاتها تشكل حالة افتقدها الشارع الفلسطيني بسبب الانقسام منذ عام 2007، وبالتالي ما نشهده حالياً هو وحدة وطنية في العمل الميداني، فرضتها ظروف المواجهة، ويغيب فيها الرأس، أو القيادة البارزة لها، ما يربك الاحتلال ويعقّد مهمته في إنهاء هذه التشكيلات التي يزداد عدد منتسبيها يوماً بعد آخر.
في المقابل، نجد أن الشارع الفلسطيني يحتضن هذه الحالة ويتفاعل معها، بل وحتى يستجيب لمطالبها؛ فلا يمكن تخيل حجم المعاناة والخطر اللذين يتكبّدهما السكان في مخيم جنين، أو شعفاط المحاصر بسبب اتهام الاحتلال أن منفذ العملية الأخيرة على حاجزه مختبئ فيه، أو معاناة سكان حارات نابلس القديمة، من اقتحامات الاحتلال العسكرية، التي يتخللها إطلاق نار، وإطلاق قذائف صاروخية. لقد ارتضى سكان تلك المناطق أن يتحملوا نصيبهم من هذه المواجهة، وهي رسالة تحد للاحتلال، وفي الوقت نفسه للسلطة الفلسطينية التي ثار عليها أهل نابلس بعد اعتقال المطارد مصعب اشتيه، بل واستجابوا لنداء «عرين الأسود» بالإضراب، وهي المرة الأولى التي تضرب فيها نابلس من غير دعوة من القوى الوطنية والإسلامية. كل هذا يجري والشبان يتخذون من تلك المناطق مرتكزاً لنشاطهم، وأمكنة يصعب على الاحتلال الولوج إليها من غير أن يتكبّد خسائر، بل أصبح اقتحام الاحتلال لتلك المناطق، يعني مواجهة مفتوحة تنتشر فيها مشاهد المواجهات على وسائل التواصل الاجتماعي، وتصل إلى كل أرجاء العالم، ومنهم الشباب الفلسطينيون، ما استدعى من الاحتلال، أن يضغط على مشغّلي وسائل التواصل الاجتماعي، ويحجب حساب هذه التشكيلات على الفيسبوك، والتيك توك، والإنستغرام، وبقي التليغرام عصياً على أوامر ورغبات الاحتلال، فلم يحجب حساب هذه التشكيلات.
بلا شك، إننا أمام حالة شبابية فريدة، تكاد تقود الشارع الفلسطيني، وهذا ما شاهدناه في نابلس وجنين، فهل ستترسخ هذه القيادة في حال تصاعدت حدة المواجهة مع الاحتلال في عموم الضفة، بحيث أضحى من الواضح، أن الشباب يشكلون قيادته وأطره وأساليبه بعيداً عن الفصائل، فماذا عن دورها؟