أعطى المطارد في التجربة الفلسطينية، طوال سنوات المقاومة، ضد الاحتلال، صورة البطل الأسطوري الملتحم والمضحي، من أجل خلاص شعبه، لهذا عمل الاحتلال بكل جهد للتخلص من المطارد، عبر تنفيذ عمليات الاغتيال، والتي تعددت وتنوعت فيها الأساليب، لكن بقيت للمطارد حكايته، فالاغتيال المادي والقتل لم يمنعا من حضوره الفعال في الرواية الفلسطينية، فهو الملهم دوماً في إعادة صياغة الملحمة، والمواجهة، بعدما تجذّر في الوجدان الشعبي .
ماذا يعني أن تصبح مطارداً للاحتلال؟
على امتداد سنوات المواجهة مع الاحتلال، أدّى المطارد أدواراً كبرى، تعدّت حدود العمل العسكري المباشر، فهو ابن بيئته وحاضنتها الشعبية، وهو سليل أجيال، تناقلوا التجربة، وحملوا عبئها، وجاهروا بالتحدي والوعي النقيض للاحتلال، على الرغم من انكسارات في موازين القوى، المائلة دوماً لمصلحة الاحتلال.

ومع هذا اختار المطارد هذا الطريق المحفوف، بكل أنواع المخاطر، فالنتيجة التي تصاحب هذا الفعل كانت دوماً ما بين لحظة الشهادة، أو الأسر أو الاعتقال. لكن هذا الأمر لم يمنع من استمرار هذه التجربة، وبقائها حتى هذا الوقت، فالمطاردة كانت دوماً خياراً حراً، اتخذه المطارد، حمل فيه عبء المواجهة عن شعبه، فلا غرابة أن يكون حضوره في الرواية الفلسطينية حضوراً مميزاً، فهو «الشهيد الحيّ» من لحظة المطاردة حتى لحظة الاستشهاد وما بعدها، تعدّدت التسميات، «المطارد» «المطلوب» «الفدائي» «الشهيد الحيّ» كل تلك التسميات كانت تصبّ في خانة البطولة المطلقة، فهو التنين الذي خرج ليهزم الصياد، كما أطلق على تسميتها الأسير زكريا الزبيدي، في رسالة الماجستير التي حملت عنوان «الصيّاد والتنين: المطاردة في التجربة الوطنية الفلسطينية من 1905–2018» تحت إشراف الدكتور عبد الرحيم الشيخ، والتي نالها قبل أشهر من جامعة بير زيت، حيث وثّق تجربته الشخصية طوال سنوات المطاردة التي عاشها، والتي عاينها وعاشها لحظة بلحظة، ففي هذه التجربة التي وثّقها، كفكرة وفعل وهدف، لخّص فيها تجارب المطاردين. صحيح أن لكل تجربة خصوصيتها، لكن تجارب المطاردين عموماً متشابهة إلى حد ما، فالميدان واحد، والعدو واحد، والهدف أيضاً واحد.
فعل المطاردة، جاء بالأصل نتيجة لمقاومة للاحتلال، فهو فعل هجوم قبل أن يكون فعل دفاع


في التجربة
على امتداد سنوات المقاومة في الداخل وفي الخارج، سعى الاحتلال للتخلص من النخبة الفلسطينية الفاعلة، سواء كانت تعمل في حقل الفعل العسكري أو السياسي، وحتى الثقافي والإعلامي، فبالنسبة إليه، الجميع يحملون راية المقاومة، يبشرون بالأمل، ويدفعون بزمنه، ليحضر زمن أصحاب الأرض، هذا المسعى للتخلص من هذه النخبة سلك كل الطرق، تعددت فيه الأساليب وتنوعت، طالت كبار القادة، وحتى صغارهم، تحت بند الإجهاز على الفاعلية الفلسطينية، قبل أن تتحول إلى مدّ جارف، استخدم كل الوسائل لتحقيق أهدافه، جمع بينها، استخدم الطائرات الحربية، والسفن، استعان بكل الوسائل التكنولوجية المتاحة له، وظّفها في خدمة هذا الفعل، من دون أن يخضع فعله لأيّ قانون إنساني. القانون الوحيد، هو قانون التوحش، فلا اعتبار لدول، أو مؤسسات، أو جماعات، ولا وعود وتعهدات. قائمة المطلوبين الفلسطينيين الذين اغتالهم الاحتلال طويلة جداً، ومع كل فعل كان الاحتلال يجاهر بفعلته، وأحياناً يتفاخر بها ويحتفل، ومع هذا بقيت الحالة الفلسطينية الثورية حاضرة، تتغذى وتعتاش وتتواصل لتستمدّ هذا الزخم، الحاضر في أزقّة المخيمات والقرى والمدن الفلسطينية موجة بعد موجة، يحضر فيها الشهداء الذين جرى اغتيالهم عبر ذاكرة حية يمثّلها المطاردون اليوم في أزقة مخيم جنين وأريافها، كما نابلس وكل المدن الفلسطينية؛ فالصياد لم يعد يواجه فرداً محاصراً، إنه أمام ظاهرة عصيّة على الانكسار، كل الأدلة تؤكد ذلك، طالما أن هذه الظاهرة كانت ولا تزال وسوف تبقى رافعة للعمل الكفاحي، فهي إبداع من صنعوها؛ فيها «المثقف المشتبك» أمثال كنفاني والأعرج، وفيها القادة المؤسسون، عرفات وياسين وأبو علي والشقاقي، فيها الطبيب المشتبك، الرنتيسي وأبو التين، فيها عياش المهندس، ظاهرة المطارد ظاهرة حية وفاعلة، جاءت لترد على كل محاولات أسر الواقع والسيطرة عليه من قبل الاحتلال، ظاهرة تحمل رسالة واضحة تقول: مهما عظمت تجليات الاحتلال في المشهد الفلسطيني، فالحلول حاضرة وجاهزة، على الرغم من الثمن المدفوع لأجلها، خياراً مصحوباً بقناعة وعزم ووعي، ظاهرة جماعية مصحوبة بالتفاف جماهيري، وإجماع وطني وحدوي، يعززه استمرار هذه التجربة حتى هذا الوقت، تنظر ولا ينظر إليها، يطابق القول فعلها، في ميدان المواجهة والقتال، فيها محمد الضيف يدخل منتصف العقد الرابع من المطاردة، في جغرافية صغيرة محاصرة ومطوقة، أسيرة من كل الجهات، تخضع للمراقبة جواً وبراً وبحراً، ومع هذا فهو الغائب الحاضر في كل المواجهات، يحضر دوماً فيها، عنواناً للبقاء.

في الميدان
مع كل استشهاد مطارد، تطرح أسئلة كثيرة، تتعلق بكيفية نجاح الاحتلال في الوصول إليه، هذه الأسئلة تتداخل أحياناً ويتعدد أصحابها، منهم المشكك في التجربة ونجاحها، ومنهم الحريص والغيور عليها، لكن تبقى الأسئلة خالية من أي معنى، طالما كان أصحابها يجهلون حقيقة الميدان، المطارد في التجربة الفلسطينية، أسير محيط جغرافي ضيق، لا يتعدى حدود بيئته المجتمعية، تختلف من الريف إلى المدينة والمخيم، لكنها تمتاز بحيّز جغرافي صغير وضيق، وغالباً ما يكون محيطه مطوّقاً ومراقباً طوال الوقت، فيما الاحتلال يستعين بالحيلة، عبر تخفّيه بلباس مدني، مستعيناً بكل أدوات تكنولوجيا المراقبة، مصحوباً بقواته الخاصة، التي أعدّها خصيصاً لتلك المواجهة، ومع هذا في أحيان كثيرة، يتلقى خسائر بشرية معلنة وغير معلنة، يتكتم ويتألم ليبقى «صياداً» ناجحاً وفق زعمه، في مواجهة التنين الفلسطيني القابض على الجمر، صراع على الصورة، لإثبات من الأقوى في تلك المواجهة، هو يرى المطاردين خارجين عن قانونه، في المقابل المطاردون يرونه طارئاً عن كل قوانين الحياة.

المطارَد و المطارِد
الأولى بفتح الراء والثانية بكسرها، ثنائية تصح في هذه التجربة، في الأولى يبحث الاحتلال عنه، لقتله أو أسره، الثانية يبحث عنهم لقتالهم. فعل المطاردة جاء بالأصل نتيجة لمقاومته للاحتلال، فهو فعل هجوم قبل أن يكون فعل دفاع، يدرك فيها المطارد، بفتح الراء، أن لحظة الشهادة لحظة متوقعة منذ البداية، فعله هو بالأصل شهادة، وقتاله استشهاد، المواجهة العسكرية مع قوات الاحتلال بحدّ ذاتها كسر لكل العلوم العسكرية، ففي الحالة الفلسطينية لا يوجد أماكن آمنة، لا الجغرافيا تتيح ذلك، ولا الإمكانات المادية، ومع هذا تستمر المعركة وتمتد وتأخذ زخمها رغم كل الإمكانات الشحيحة المتاحة، في مواجهة إمكانات كبرى متاحة لعدوّه، رسالته صغيرة متواضعة في الفعل، لكنها كبيرة في المضمون والهدف مشاغلة الاحتلال في كل نقطة جغرافية، منعه من الاستقرار، إجباره على دفع ثمن احتلاله للأرض، فإن تعذّر فعل التحرير اليوم، الإبقاء على المقاومة كعنوان حاضر، يحمي الرواية الفلسطينية من التلف والنسيان، ويأخذها إلى مجراها الطبيعي، حيث يكون الاحتلال تكون المقاومة، فيها يحضر الفلسطيني، وخارجها يغيب ويغيب؛ وتغيب معه القضية.