في الوقت الذي كانت فيه كل الأنظار تتجه نحو عاصمة الإمبراطورية الاستعمارية، لندن، كان الشهيد عز الدين القسام، يقف على الضفة المقابلة، يصنع قبلة أخرى غيرها. ففي مرحلة الانتداب البريطاني على فلسطين، عملت لندن على تكوين ودعم نخب سياسية، مكونة من أحزاب وتكوينات اجتماعية، ترضى بالوجود البريطاني على أرض فلسطين، على أمل تحضيرها لنيل الاستقلال في ما بعد. المسعى البريطاني كانت له أهداف متعددة ومتنوعة، لكن أهمها كان مغافلة الفلسطيني، حتى يتمكن من صنع الأرضية القوية لبناء دولة الاحتلال الصهيوني في فلسطين.

القسام يرى ويصنع أمة محاربة
في هذا الوقت، كان القسام يسير عكس المرحلة، يعدّ ويبني للمواجهة المسلحة مع الاحتلال البريطاني والعصابات الصهيونية في ذلك الوقت، وكان مسعاه يعتمد بالدرجة الأولى على بناء الوعي الفلسطيني وتحضيره للحظة الاشتباك، وبعد مرور أكثر من ثمانية عقود على تلك اللحظة التي وثقها باستشهاده في أحراج يعبد؛ لا يزال حضوره المعنوي طاغياً على كل من عاصروه في ذلك الوقت. جاء ليقول إن «يعبد مربط خيلنا»، ففي ميادين الوطن تصنع السيادة والحرية والكرامة، وفي ميادين الآخرين يصنع الوهم، لهذا هو الحقيقة الفلسطينية الصاعدة، والحاضرة في وجدان ووعي الفلسطينيين حتى هذا الوقت، بعمله ولحظة استشهاده، صنع القسام الهوية الفلسطينية المعاصرة، وأمدّها بكل أسباب النهوض، فيما ذهب أصحاب الرؤى الأخرى إلى مجاهل التاريخ.

كيف تمكّن من ذلك؟
على الرغم من أن القسام لم يكن من أهل البلاد، فقد جاء إلى فلسطين في عام 1920، قادماً من مدينة جبلة السورية مسقط رأسه، إلا أنه استطاع الانخراط في البنية الاجتماعية الفلسطينية، فهو الخطيب والإمام في جامع الاستقلال في حيفا، والرئيس لجمعية الشبان المسلمين فيها، وفي ما بعد أصبح مأذوناً شرعياً، كل تلك المناصب التي تولاها، كانت تصبّ في خانة مسعاه الأساسي والرئيسي الذي جاء إلى فلسطين من أجله، ألا وهو الثورة على المحتل البريطاني. وهو صاحب تجربة في الفعل المقاوم، دشنها في عام 1911، عبر دعم ثورة عمر المختار في ليبيا، بالمال والسلاح، وبعد خضوع سوريا للانتداب الفرنسي بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، انخرط القسام في مقاومة المستعمر الفرنسي في الساحل السوري، لكن تجربته هناك لم تكتمل لظروف موضوعية، فانتقل إلى فلسطين ليكمل ما بدأه في الساحل السوري، انطلاقاً من إيمانه العقائدي بوجود أمة واحدة.
كان يحمل رؤية ثورية جذرية مكّنته من معرفة حقيقة الوجود البريطاني على أرض فلسطين ومن استشعار خطورة المشروع الصهيوني


لقد تمكّن القسام بحكم المواقع والأدوار التي قام بها من التعرف على أحوال الفلسطينيين، ومعرفة التركيبة الاجتماعية فيها، وبالتالي سمحت له الظروف في عملية الإعداد النفسي والمعنوي والمادي، للتحضير للثورة الفلسطينية الكبرى، ضد المحتل البريطاني، على الرغم من انتمائه للبيئة الدينية التقليدية، التي كانت تعيش مرحلة الانكفاء على الذات، إلا أن القسام كان يحمل رؤية ثورية جذرية، مكنته من معرفة حقيقة الوجود البريطاني على أرض فلسطين، كما مكنته من استشعار خطورة المشروع الصهيوني، الذي كان يقوم بتأسيس اللبنات الأولى لدولة الاحتلال، وفي تجربته التحررية.

الشهيد الأول في الثورة
مع اشتداد وطأة الحصار على القسام، واستكماله للاستعدادات للحظة انطلاق الثورة، عبر تحضيره للخلايا العسكرية في عموم شمال فلسطين، يمّم القسام شطر جنين، وفي أحراج يعبد حطّ الرحال، في مسيرة كان يراد منها استكمال التحضير للثورة، لكن شاءت الأقدار أن تكون لحظة الشهادة والاستشهاد. العيون على امتداد فلسطين كانت تراقب حركته، الأولى عيون الاحتلال البريطاني وأدواته، والثانية عيون الفلسطينيين التي كانت تنتظر لحظة الثورة. كانت في لحظة سباق محموم، المحتل البريطاني بقي حتى آخر لحظة في حصار القسام في أحراج يعبد، يحاول كسر الحضور الثوري للقسام، عبر استمالته وتقديم الإغراءات والعروض له، لتسليم نفسه والعفو عنه، وأن يتولى مناصب في المؤسسة الدينية الفلسطينية، لكن الشيخ كان يدرك هدف المحتل البريطاني، لذلك رفض كل تلك العروض، وقال قولته المشهورة والمشهودة لصحبه، «إننا لن نستسلم، إن هذا جهاد في سبيل الله والوطن.. موتوا شهداء».

بين زمنين
في لحظة استشهاد القسام في عام 1935، كانت فلسطين على موعد جديد، فرجال القسام المبثوثون في كل الدروب، أخرجوا بنادقهم، وبدأوا في إشعال نار الثورة التي امتدت على ربوع فلسطين كاملة، فالقسام تحوّل إلى رمز وأيقونة في تاريخ فلسطين، لهذا ارتبطت الثورة الفلسطينية الكبرى التي اندلعت في عام 1936 باسمه، فرجاله أصبح يطلق عليهم «قساميين»، والثورة عُرفت بثورة القسام، وصار زمنه الذي أراد، يملأ فضاء الناس، وجنازته التي خرجت بمدينة حيفا، كانت التعبير الحقيقي والفاصل؛ بين زمن النفعيين المرتبطين بالانتداب وعلى رأسهم الإقطاعيون والنخب السياسية التي تربّت في أحضان المحتل، وبين زمن الناس، الذين امتلأت بهم شوارع حيفا، قادمين من كل المدن والأرياف، ليحضر معهم، بالوعي والثورة، التي عمل طوال حياته من أجلها. وعلى الرغم من التضليل الإعلامي الذي مارسته بريطانيا في ذلك الوقت، حيث وصفته بأنه زعيم عصابة، ووصفت أصحابه بأنهم قطّاعو طرق، ومع هذا أدرك الفلسطينيون أن القسام في لحظة استشهاده، رسم معالم الهوية الفلسطينية، وأعطاها بدمه بعدها الحقيقي، وأصبح الفلسطيني الأول؛ كل من يريد خطاه، وسار على دربه، هو من يطلق عليه الفلسطيني. وبعد مرور كل تلك العقود والسنوات على استشهاده، لا تزال ذكراه حاضرة، ولم تغب عن حياة الفلسطينيين، ففي الثورة الفلسطينية المعاصرة كان القسام حاضراً في التجربة وملهماً لها، كذلك في الانتفاضتين، الأولى والثانية، عبر «كتائب القسام»، وصواريخ القسام التي ضربت مستوطنات الاحتلال، كان القسام في كل لحظة موجوداً، وكان مسعاه حاضراً، قولاً وفعلاً، لهذا صدقت رؤاه وخطاه، فلا حياة للفلسطيني خارج دائرة المقاومة المسلحة التي دشنها في عهده، والتي لا تزال حتى هذا الوقت حاضرة في كل يوم.

87 سنة على الشهادة
مع مرور كل تلك السنوات، على زمن الاحتلال، كان زمن القسّام هو الوحيد القادر على المواجهة وإثبات الذات؛ أجيال متتالية، وللعهدة القسامية، التي تجسّدت بالمقاومة، عنوان وحيد هو انتزاع الحقوق، فالقضية لا تزال متوهجة، والشعب الفلسطيني حاضر على مسرح التاريخ، والعدو يتألّم، ومسار الحرية قادم، كما أراده القسّام.