«ولعلّ شخصيّة القسّام تشكّل في حدّ ذاتها نقطة التقاء رمزية لمجموعة هائلة من العوامل المتداخلة التي تشكّل في مجموعها تبسيطاً للقضية الفلسطينية» - غسان كنفاني
لنفهم ثورة 1936-1939، علينا العودة إلى دور الشيخ الثائر عزّ الدين القسام. يقول الأديب الشهيد غسان كنفاني إنه على الرغم من عدم فهم أغلب المؤرخين اليهود لشخصية القسام واعتباره «الدرويش المتعصب» وإهمال أغلب المؤرخين الغربيين له، إلا أنه «مما لا شك فيه هو دور حركة القسام والمجموعات القسامية التي شكلت نقطة انعطاف أدت دوراً مهماً في تقرير شكل متقدّم من أشكال النضال».
حاول كنفاني فهم شخصية القسام وتحليلها من خلال عوامل مترابطة شكّلت في مجموعها مضمون القضية الفلسطينية، فـ«سوريّته» تمثّل العامل القومي العربي في المعركة. و«أزهريّته» تمثّل العامل الديني - الوطني، و«نضاليّته»، بدءاً من اشتراكه في الثورة السورية ضد الفرنسيين، وصولاً إلى فلسطين، تمثّل وحدة النضال العربي.
يبدأ كنفاني دراسته لثورة 1936-1939 في فلسطين بالحديث عن المخاطر التي كان يواجهها الفلسطينيون، بدءاً من الإمبريالية البريطانية وعلاقتها بالحركة الصهيونية كـ«عميل ملائم أكثر»، إضافة إلى خطر الرجعية العربية والقيادة الإقطاعية. بالنسبة إليه، هناك سببان متداخلان لاندلاع الصدامات التي أدت لاحقاً إلى الثورة:
الأوّل، الخطر الصهيوني الذي كان يفرض نفسه على الصراع بصورة واضحة، حيث كان يزيد من ثقل الهيمنة على الفلسطينيين.
والثاني، تهديد الإمبريالية البريطانية ووكيلها الحركة الصهيونية لمصالح الإقطاعيين.
يشرّح كنفاني تأثير غياب البنية الفوقية - أي حركة وطنية ترتقي لقيادة الثورة - بسبب هيمنة الإقطاعيين الذين كانوا يحملون راية القومية والثورة تارة، ويحاولون التقارب مع الإنكليز تارة أخرى، إلا أن القيادة الاقطاعية اضطرّت لاحقاً إلى دعم النضال السياسي الفلسطيني والكفاح المسلح بعد استشهاد القسام، حيث كانوا قد اتخذوا موقفاً «فاتراً» وحاولوا التواصل مرة أخرى مع المندوب السامي، إلا أنهم أدركوا أنه لا يمكنهم تجاهل القسام وحدث استشهاده، ففي الحقيقة كان لاستشهاده دور واضح في تغيير موقف القيادة الإقطاعية: «كان قد فوّت عليهم، بالشكل النضالي الذي قرّره، فرصة التراجع».
يساعدنا تحليل كنفاني للطبقات المسحوقة من الفلاحين وما سمّاه «أشباه البروليتاريا» والبدو، التي كانت تعاني من المشروع الصهيوني المدعوم من الإمبريالية البريطانية، في فهم أسباب اتباعهم لدعوة القسام الثورية. فقد كان للهجرة اليهودية تأثيرات اقتصادية مباشرة، حيث كان يجري العمل على استبدال الأيدي العاملة العربية بأخرى يهودية، وفي الوقت نفسه كان يجري العمل على طرد الفلاحين من الأرياف باتجاه المدن بسبب زيادة السيطرة اليهودية على الأراضي الزراعية، فكان العامل القومي واضحاً، ولم يكن أيّ من هذا عملاً عشوائياً. فجعل ذلك العمال والفلاحين والبدو على استعداد دائم للاشتباك والالتحاق بالثورة. كان قهرهم القومي المزدوج وقهرهم الطبقي المزدوج عاملاً أساسياً للالتحاق بالمجموعات القسامية التي أدركت حقيقة الصراع.
أمّا بالنسبة إلى دور المثقفين، ففي وسط المعركة الثقافية وتناقضاتها بين الريف والمدينة، استطاعت التعبئة الثورية التي ظهرت على شكل الزجل السياسي الشعبي، والدعوة إلى الثورة في المساجد والتي قادها الشيخ القسام، أن تنتصر للبارودة على حالة الخنوع التي حاولت السلطة الإقطاعية فرضها.
يبيّن كنفاني اختلاف المؤرخين على الحدث المفجّر لثورة 36، إلا أن جميع المصادر لا تختلف على دور المجموعات القسامية. يجادل كنفاني بأن وصول التناقضات إلى ذروتها كان سببه تحوّل المجتمع من إقطاعي زراعي عربي إلى اقتصاد صناعي بورجوازي يهودي غربي أوّلاً، وتحوّل شكل الهيمنة من الانتداب البريطاني إلى استعمار إحلالي يهودي ثانياً. أمّا تفجير الكفاح المسلح، الذي دفع القيادة الفلسطينية إلى تبنّيه، فيرجع إلى حركة القسام أوّلاً، وعجز القيادة التقليدية التي كانت على رأس الجماهير ثانياً.
ارتقى الشيخ القسام إلى مستوى مسؤولية التصدّي لمسألة غياب قيادة ثورية للمجتمع الفلسطيني. يقول كنفاني إن ما يلفت النظر في نشاط القسام هو «عقله التنظيمي المتقدم، وصبره الحديدي»؛ نشر الثورة بسرّية، وجمع المال للسلاح، وشكّل لجان تدريب ولجان أمن ولجان اتصالات سياسية للثورة، ليصبح الشيخ الذي أتى من جبلة في سوريا إلى فلسطين معلّماً وقائداً وثائراً، خير تجسيد للثائر العربي الذي رفض قمع السلطة وأدرك مخاطر الاستعمار، وعمل على نشر فكره النضالي حتى استشهد في يعبد في جنين، مشتبكاً ورافعاً شعار «موتوا شهداء».
وبعد 87 عاماً على استشهاده، لا يزال كثيرون يعتقدون بأن الشيخ القسام فلسطيني، وعلى الرغم من تلك المغالطات، فإنه فلسطيني بهوية الصراع الذي آمن به واستشهد في سبيله. على أرض فلسطين، اختلط دمه بدم فلاحيها ومجاهديها، لتخلّد ثورتهم ويحمل من بعدهم رايتها لنشهد ولادة مجموعات قسامية جديدة على أرض فلسطين تأبى الانهزام. فلا تزال روح القسام ورفاقه تطارد المستوطنين في كل اشتباك في القدس وجنين ونابلس وكل الأرض. نلمس روحه في وصية الشهيد إبراهيم النابلسي وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة: «حافظوا على الوطن من بعدي… لا تتركوا البارودة».