في كُتيب صغير ومغمور عن تجربة الشيخ عز الدين القسَّام يشير مؤلفه علي حسين خلف (1945- 1996) إلى الإهمال التاريخي الذي لحق بتجربة القسَّام من خلال اختزال سيرته التي سبقت ذهابه إلى فلسطين، وتقديمه للقارئ مجرداً من خبراته السابقة في سوريا خلال ثورتها ضد الاستعمار الفرنسي. لكنّ الفكرة التي تجعلني أكثر ارتباكاً في ذهابي للكتابة عن القسام هي ما جاء في حديث المؤلف نفسه عندما قال إن «ضعف التاريخ المكتوب والشفوي لتلك المرحلة، لا يبرر للدارسين استسهال نقل المعلومات من مصدر واحد، دون تدقيق، وبإشكالية حوّلت القسَّام من شخصية حقيقية إلى شخصية احتمالية» (عز الدين القسَّام، علي حسين خلف، دار الحوار). لذا فإنني أُسلم منذ البداية بأن التنقيب عن آثار هذا الرجل بحاجة إلى مبحث خاص في ظل شح المصادر وتنوع الحكايات التي قد يُسفر تضاربها عن استحداث شخصية جديدة مع الوقت، باسم القسَّام وملامحه، لكنها لا تمتُّ للشخصية التاريخية بأي صلة.ونحن إذ نكتب عن القسَّام في ذكرى استشهاده فإننا نعترف بأننا نكتب على هامش سيرته لا في متنها. نتذكره لنذكّر به، ونكافح آفة النسيان باستحضاره في ذاكرتنا القومية. نتذكره شيخاً شهيداً على أرض شهيدة، وسيرة لدم ساخن يجري على صخرة العناد التليدة، تلك التي شهدتْ على أمة تحلم باستعادة الجسد وزوال الهيمنة الاستعمارية عن كل شبر من ترابها.
لقد تنبّأ القسام في وقت باكر من تجربته بخطورة المشروع الصهيوني، ولا سيما بعد الإعلان المشؤوم عن وعد بلفور في تشرين الثاني من عام 1917. كانت فلسطين تشهد هجرات متزايدة من اليهود إليها تحت إشراف البريطانيين، وكان القسام يؤجل إطلاق رصاصة إعلان الثورة إلى حين استيفاء كامل شروطها عدةً وعتاداً، لكنه بُوغت بالرصاصة الإنكليزية في 20 من تشرين الثاني عام 1935. لم يكن تبادل النيران متكافئاً، ولم يكن العدل حاضراً حتى المعركة الأخيرة. كان المسجد يواجه الإمبراطورية، وكانت العمامة الأزهرية تخوض آخر معاركها مع معدن الخُوذ الإنكليزية المصفّحة، وكان الأوان قد آن ليكتمل القسَّام كأسطورة. وجاء خبر استشهاده في أحراج قرية يعبد من أعمال جنين كباعث عنيف للثورة الفلسطينية الكبرى التي اندلعت عام 1936، أي بعد أشهر قليلة من استشهاده، لتستأنف تلك الانتفاضة الشعبية مرحلة جديدة من تاريخ الصراع العربي الفلسطيني مع المستعمر البريطاني الصهيوني.
لا يمكن لميراث عز الدين القسام أن يُحتكر لصالح حزب سياسي أو تيار معين، وليس من حق كتبة التاريخ أن يقيّدوا سيرته في بعدها الإسلامي فحسب، كمجرد رجل دين ثائر تحت ضغط غيرته على الدين ومقدّساته، فما يميز القسَّام هو هذا التماهي النادر في تجربته بين ما هو ديني وما هو وطني وقومي. وفي ذكرى استشهاده لا يكون الوطن فلسطين ولا سوريا، بل الشرق، كل الشرق في سيرة رجل واحد. وبين اللاذقية وحيفا، بين مسقط الرأس ومرقد الجسد، طريق طويل من أجل الحرية البعيدة كالماضي، القريبة كالمستقبل.

* شاعر عُماني