«... وقت خلق الشفيع كنت ناطرو على باب الدكانة، وإلّا هوّي جايي وراسو بالأرض. قلت بقلبي: لَهْ إجت الخامسة! ولك ليش تأخرت يا بيي الحمدالله على سلامة إنعام، شو جابتلنا؟ بنت؟ ردّ: لأ صبي. قلتلو: صبي وهيك ماشي متل العسكري المهزوم؟ كيف حاملتك أعصابك؟.. حملت الجفت وقوّصت ضربين. مش هون القصة، سألتو: شو بدك تسمّيه؟ قلّي: كوزو! صرخت فيه: كوزو؟ يا مشحّر يا أبوكاتو!... منين جبتلي هالاسم؟».- «إيه يا عمّي ما أني كنت عارفة، كوزو أوكاموتو عمل عملية الّلد بفلسطين، ووحام إبنك الأبوكاتو إجا عليي. كل ليلة يخبرني القصّة، بصمتا بصم، وبالآخر يحطّ إيدو على بطني ويقول تصبح على خير كوزو!... دخلك يا عمي كيف رجع اقتنع معك يغيّر الإسم؟».

-«والله يا عمّي بعد ما عملّي محاضرة حزبية بالنضال وهيدا اللي جايي من طرف الأرض… من اليابان تيعمل عملية ويحرر فلسطين، وشو الله جابرو إلّا إنّو إنسان حرّ مآمن بقضية هالشعب، قلتلو: طيب يا بيي... يعني فش شي إسم هيك هيك، من شي دولة نفهم عليها وتفهم علينا؟ يعني نحنا ودولنا أنجأ نفكّ الحرف... سايغون ونقلتا على 'الدّبش'، الدكانة وعملتلي ياها حليفة الاتحاد السوفييتي وإسّا بدّك تعملّي حاكورة نصّ الضيعة منطقة العبور الآمن للجيش الأحمر الياباني؟ برضايي عليك يا بيّي غيّرلي هالاسم»...
تقصّدت أن أقتطع هذا النّص من روايتي «TOP CAMERA» لأقول إنه منذ ذاك الوقت أقام كوزو معنا افتراضياً. وكنّا نحن الإخوة الأشقياء، نستفزّ به شقيقنا الأصغر بالقول: «بابا وماما اشتروك من اليابان، وكان اسمك كوزو قبل ما يسمّوك الشفيع». ومنذ ذاك الوقت كبر كوزو أوكاموتو المناضل معنا وبيننا، إلى أن قفز بي الزّمن أعواماً إلى الأمام وكنت خلالها قد أصبحت صحافية ومراسلة في قناة «الجديد» في بيروت حين خرجت قضية المناضلين اليابانيين الخمسة إلى الضوء، باعتقالهم عام 1997 وزجهم في سجن رومية، بعد انكشاف أمر إقامتهم السرّية في سهل البقاع. كوزو الذي قال لقاضيه الجلاد أثناء محاكمته في فلسطين المحتلة: «إنني كجندي في الجيش الأحمر الياباني، أحارب من أجل الثورة العالمية، وإذا متّ فسأتحول إلى نجم في السماء» قال بعدما حكم القضاء اللبناني عليه وعلى رفاقه بالحبس ثلاثة أعوام: «بعد القيام بعملية الّلد ظننت أنني أصبحت مواطناً عربياً يحقّ لي الإقامة في أي قطر عربي».
مدفوعةً باسم كوزو الذي انطبع في ذاكرتي مذ كانت طرية العود، ومن منطلق واجبي الوطني انخرطت في حملة أصدقاء أوكاموتو ورفاقه، وكان لي شرف المشاركة في النشاطات والتحركات إلى جانب الإضاءة إعلامياً على قضية اعتقال المقاومين الخمسة، وصولاً إلى الإفراج عنهم وعدم تسليمهم إلى اليابان بكل ما مرّت به الحملة آنذاك من التضييق والترهيب والملاحقة والتهديد بالاعتقال بهدف التعتيم على قضيتهم.
تذكّر يا كوزو أن الحرية لم تعد حلماً، أن حريتك غادرت منطقة الأحلام


بمزيد من الشعور بالفخر في مواكبتي لقضيتهم، كنت من المحظوظين الذين حضروا زفاف أميّة عبود وماساو أداتشي في سجن رومية. حملت ورقتي والقلم ومعهما باقة ورد أحمر جوري، وتوجهت قبل ظهر يوم الواحد والعشرين من شباط عام ألفين برفقة زميلي المصور إلى سجن رومية، حيث صُفّت الكراسي في القاعة وأصبحت جاهزة لمراسم الزفاف، فكان النائب السابق نجاح واكيم إشبين العريس، وإحدى قريبات أمية الإشبينة، بحسب ما أذكر، أما المعازيم فكانوا رفاق أداتشي والسجناء المحكومين.
بعد انقضاء فترة حكمهم، أفرجت السلطات اللبنانية عنهم، وجرى العمل على تجزئة قضيتهم، بأن فصل ملف كوزو عن باقي رفاقه، وبتاريخ الواحد والعشرين من شهر آذار عام ألفين، وفي خلال مؤتمر صحافي كنت في تغطيته، أعلن المدير العام للأمن العام آنذاك النائب الحالي في البرلمان جميل السيد، منح كوزو أوكاموتو أول بطاقة لاجئ سياسي في لبنان. أما رفاقه، فقد اتخذت الحكومة اللبنانية قراراً بترحيلهم، ومعهم أداتشي على جناح صفقة، حملتهم إلى العاصمة الأردنية عمّان، ومنها إلى سجون اليابان.
بعد خروجه إلى الحرية ببطاقة حملت الرقم (1) كلاجئ سياسي، كان أول مشوار لي برفقة كوزو، وقلة قليلة من الأصدقاء، بناءً على دعوة الصديق جمال واكيم، إلى شاطئ البربارة قرب مدينة جبيل، ولا أدري ما إذا كانت الصدفة قد لعبت دورها، بين سبعينيات بلدتي بنت جبيل حين سمعت للمرة الأولى اسم كوزو، وبين مدينة جبيل في شهر آب عام ألفين، ففي ذلك اليوم تربّع كوزو على الأرض، أجلس ابني رام، وكان يبلغ أحد عشر شهراً من العمر في حضنه، ضحك رام وناغاه، وتململ قليلاً قبل أن يستسلم لهدوء كوزو. التقطت في حينها صورة لهما، ومذّاك الوقت كلما نظرت إليها، أقرأ فيها أن السجن حطّم كوزو، حطّم قلبه وعقله وذاكرته، لكن مرّت الأعوام، التي قضاها بين زنازينه المنفردة وعذابات ما وراء القضبان، لم تستطع أن تدمّر تلك النظرة التي تشعّ بالأمل وتنمو كالبرعم وتلك الابتسامة التي تنبع من صميم رجل حرّ آمن بالحق في الحرية أنّى اتجهت بوصلته. في تلك اللحظة احتضن كوزو رام، كمن يحتضن أول العمر وآخر الحلم. وعلى إغماضة عينيه بقي الحلم سراً بين جفنيه الذابلين... تذكّر يا كوزو أن الحرية لم تعد حلماً، أن حريتك غادرت منطقة الأحلام.