تثير ذكرى الانتفاضة الأولى أفكاراً كثيرة، جميلة ورومانسية بعض الشيء، على الرغم من أن كل ما يتعلق بفلسطين، لا بد وأن يصطدم بحائط شيّدته الدماء والدموع. مع ذلك سأنسج للحائط غلافاً، أغطي فيه حزناً قديماً في فلسطين، لا لأرسم ابتسامة على وجه أحد، لكن لأحاول إعادة تكوين المشهد.في رسالة كتبها الشاعر الراحل محمود درويش إلى الشاعر الراحل سميح القاسم في 5 آب 1986، قال له فيها: «نحن في حاجة ماسّة إلى الإيمان الأول، وإلى النار الأولى. نحن في حاجة إلى سذاجتنا. نحن في حاجة إلى درس الوطن الأول: أن نقاوم بما نملك من عناد، وسخرية، بما نملك من جنون… في الأزمات تكثر النبوءات: وها أنا ذا أرى وجهاً للحرية، محاطاً بغصني زيتون... أراه طالعاً من حجر». بعد عام وبضعة أشهر، قامت الانتفاضة، وتحققت نبوءة الشاعرين، أو تحقق إلهام الشعب للشاعرين، وكانت قصيدة الشعب الفلسطيني التي امتدت لأعوام بالدم والعظام وحجارة الأرض.
تحقّقُ تلك «الثورة المناهضة للاستعمار الأكثر إثارة للإعجاب وانضباطاً بكل تأكيد في هذا القرن»، حسب تعبير إدوارد سعيد، جاء بفعل الحق، بالإيمان المجرد من أي شيء سوى الحقيقة الطالعة من عين الشمس، أن هذه «الأرض، أم البدايات أم النهايات. كانت تسمى فلسطين. صارت تسمى فلسطين».
الانتفاضة التي قامت قبل 35 عاماً، يمكن لها أن تقوم اليوم، أن تولد من بطن الأرض، من حجارتها، من زيتونها، من السواعد التي ستحمل النار في وجه إسرائيل. لأن الإيمان موجود، والشعب المؤمن بقدرته وطاقته وبالحقيقة الطالعة من عين الشمس، موجود، يكمل في طريق أبديته على أرضه، فلا أحد سواه فيها، ولا أحد لها إلا هو.
تثير الانتفاضة الأولى شهوة الحياة، كي تكون إنساناً، احمل حجراً وقاوم، كي تكون فلسطينياً، احمل انتفاضتك وقاوم، بالحجر، بالنار.
أفكّر الآن، بما كتبته أعلاه، لماذا؟ كيف لي أن أذهب بالكتابة إلى أكثر من ذلك، إلى أسئلة، لست أدري عن إجابتها، كأن أسأل: هل يحق لي محاولة تغطية حائط الدموع؟ هل تبقى الضحية ضحية بلا أثر؟ إن غطيت الحائط بفكرة، هل تبقى الفكرة بلا دموع؟
ستبكي الفكرة، بعد قليل، سيبكي الجدار، فمع كل لاجئ جديد يولد، ومع كل لاجئ قديم يموت، ومع كل شهيد جديد، وأسير جديد، هناك دمع جديد، وحلم يثأر من بركة الدم التي تتجمع منذ مئة عام وأكثر، من النكبة والنكسة، والمجازر فيهما وبينهما، ومن انتفاضة الحجارة وشقيقتها انتفاضة الأقصى، من كل مخيم سقط أو تجري محاولة إسقاطه، الثأر الذي يكبر كل يوم، ثأر من التاريخ والحاضر والمستقبل، ثأر، يستأهل أن يؤرخ، لا بالدم الكثير، بل بالحياة التي نقاوم من أجل أن تكون لنا. لذا، حائط الدموع لا يحتاج إلى فكة تغطيه، بل يحتاج إلى هدف وحفظ في متحف الذكريات، بعد أن تعود فلسطين فضاء لأهلها وللعالم، فضاء يبتسم حتى الأبد.