على وقع انتفاضة الحجارة، التي اندلعت في عام 1987، وما رافقها من أدوات مساندة ومكمّلة لها، ظهر البيان، أو ما يسمّيه أهل الأرض المنشور، كإحدى أهمّ الوسائل الإعلامية التي حدّدت المسار والمهمات والبرامج العملية ليوميات الانتفاضة مسبقاً.الانتفاضة، في الواقع، لم تكن انتفاضة حجارة فقط، كانت فيها أدوات أخرى أيضاً، كانت شاملة وكاملة على المحتل.
المناشير وقتها أدّت دوراً مهماً في صناعة المواجهة مع الاحتلال، دور خارجي برز كتحدٍّ يومي للأجهزة الأمنية الاحتلالية، وداخلي كمحفز معنوي للأهالي، ودليل على وجود قيادة سرية متماسكة تدير الانتفاضة عبر برنامج عمل متكامل، يحمل رؤية سياسية، ويقدم المنجزات النوعية التي أحدثتها في الأشهر الماضية، حسب محتوى المنشور.
في انتفاضة الحجارة، امتاز المنشور بأنه يحدث الفارق، ويشير إلى أن زمن الانتفاضة متواصل وسيتواصل رغم أنف الاحتلال الذي كان يراهن وقتها على إخماد هذه الهبّة الصغيرة من وجهة نظره وقتها.
مع الإشارة إلى أن المنشور لم يكن يصدر عن جهة واحدة، إلا أن لغته ومحتواه لأيّ فصيل انتمى كان يعبّر عن مكنونات الفلسطينيين جميعاً، من حيث الأهداف العليا، والتصدي المطلق للاحتلال، والحرية والاستقلال كهدف منشود. في الضفة الغربية وقطاع غزة، عملت ثلاث قوى رئيسية، منفصلة بعضها عن بعض، على إصدار المنشور وتوزيعه، القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة التي كانت تضمّ مختلف فصائل منظمة التحرير، وحركة حماس، وحركة الجهاد الإسلامي، جميعها كانت تسابق الزمن لفرض وقائعها على الأرض، في منافسة كانت في بدايتها مشروعة، فالميدان هو الذي كان يحدّد الأوزان لكل تلك القوى المنخرطة والمشاركة في الانتفاضة، مع الأخذ بالحسبان أن الشعب الفلسطيني، مؤطّراً أو غير مؤطّر، كان منخرطاً بفعاليات الانتفاضة.
ومع مرور الوقت، أصبحت التناقضات الداخلية الفلسطينية ظاهرة للعيان، القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة من جهة، وحماس من جهة أخرى، أرادتا القول إن الانتفاضة من صناعتها وقيادتها وحدها، لهذا دخل المحتل من هذا الباب وحاول اللعب على هذا التناقض، عبر الزج بمناشير وبيانات مزورة، أرادت إحداث الوقيعة بين تلك القوى.

من الذاكرة: «المهمة الأولى»
بعد أسبوعين فقط من اندلاع الانتفاضة، طلب مني محمد، الجار والصديق، الاستعداد ليوم الجمعة القادم، لتوزيع البيان الأول لحركة الجهاد الإسلامي. لم أكن وقتها عضواً في تلك الحركة، مشاعري الداخلية كانت تميل وقتها نحو اليسار الفلسطيني، لكني قبلت بعرض محمد، وانتظرت حتى صباح ذلك اليوم، والمهمة كانت تقتضي السفر من قريتي السيلة الحارثية إلى مخيم جنين، وبالتحديد إلى مسجد المخيم الذي يقع على أبواب المخيم، بالقرب من مقر قيادة الاحتلال لمنطقة جنين، الذي لا يبعد عن المسجد سوى أمتار قليلة. الخوف من الانكشاف كان يطغى على هذه المهمة. الدقائق التي مرت على تنفيذها كانت تمر كأنها ساعات طويلة. تحزمت بمئات الأوراق، بعدما ربطتها على خصري بكوفية فلسطينية، وأخفيتها تحت القميص، مضافاً إليها جاكيت شتوي طويل. ركبت السيارة متوجهاً إلى مدينة جنين، ومنها ذهبت مشياً على الأقدام باتجاه مسجد المخيم. في ذلك اليوم، كانت أول زيارة لي إلى المخيم، لم أكن قد رأيت مخيماً من قبل، وعلى بعد أمتار قليلة من مسجد المخيم، عند إحدى زوايا الشارع المقابل للمسجد، فوجئت بدورية للاحتلال، كأنها كانت تتهيّأ لقمع تظاهرة، ربما كانت ستخرج من المسجد، المفاجأة حاولت أن تصنع بداخلي التردد والانسحاب من المكان، لكن عامل القرب المكاني من دورية الاحتلال منعني من الانسحاب، أو بالمعنى الحرفي والحقيقي الهرب. فكرت بمحمد وقتها، ماذا سيقول لي عندما أعود إليه، وقد فشلت في هذه المهمة المتواضعة وفق تقديره، الخطيرة جداً بالنسبة إليّ. لم أحسم أمري وأتوجّه إلى المسجد بمحض إرادتي، الواقع هو الذي فرض ذلك، وصلت إلى الدورية الاحتلالية، العناصر المترجلين منها، أخذوا ينظرون نحوي، لكن لم يسألني أحد منهم أو يفتشني، بعدما قدّروا صغر سنّي ربما، وملامحي الطفولية، وقتها كنت في سن الخامسة عشرة، أو لربما لم تكن معهم أوامر للتفتيش. دخلت إلى المسجد، كانت خطبة الجمعة لم تبدأ بعد، لكن المفاجأة الأولى بدأت بمشاهدة أكثر من خمسة أشخاص من الأقارب والمعارف من قريتي، خشيت أن ينفضح أمري، وأتعرّض للانكشاف، لكن صورة محمد لا تزال ماثلة في مخيّلتي، مع سؤال افتراضي متخيّل، لماذا فشلت في هذه المهمة المتواضعة؟
أتذكّر جملة ذكرت في البيان، تقول وهي تخاطب الشعب الفلسطيني، بأننا بدأنا ندقّ المسمار الأخير في نعش الاحتلال


دفعت بي تلك الأسئلة والخيالات إلى الاستمرار والابتكار، تفحّصت المسجد جيداً، وقررت أن أخرج إلى ساحته، وأختار الصف الأخير من المصلّين، وانتظرت حتى نهاية الخطبة التي لم أستمع إليها وقتها، كنت مشغولاً بتحقيق المهمة القادم لأجلها، عندما بدأ الأذان لقيام الصلاة، وقف المصلّون استعداداً للصلاة، وأنا وقفت استعداداً لتوزيع المنشور، عندما أتمّوا نية الصلاة، وبدأ الإمام تلاوة القرآن، أخرجت كوفيتي ومناشيري، أخفيت وجهي بها، ووضعت أمام كل مصلٍّ المنشور أمامه، وعندما انتهيت خرجت من المسجد، وأنا أفكر بدورية الاحتلال، ماذا ستفعل بي وأنا الخارج من المسجد وحيداً قبل أن تنتهي الصلاة؟ طرقت باب أحد البيوت الملتصقة بالمسجد، لربما خرجت من الجهة الأخرى للبيت، هكذا اعتقدت، لم يفتح أحد الباب، وضعت يدي على الباب، لم يكن مغلقاً، دخلت ساحة البيت، أمامي في الجهة المقابلة كان جدار يطلّ على مكان بعيد نسبياً من دورية الاحتلال، تسلّقت الجدار إلى الجهة المقابلة. في سنوات الانتفاضة، كانت أبواب بيوت الناس مفتوحة في الغالب، ولم يكن الغرباء وحدهم هم اللصوص، فمن الممكن أن يكونوا من نشطاء الانتفاضة، لهذا لم أشعر بالخجل مما فعلت، دخلت بيتاً من دون استئذان صاحبه وخرجت، وأنا في مهمة مقدسة، عدت إلى وسط المدينة، وركبت الباص عائداً من مهمتي الأولى الناجحة.
هناك في القرية، علمت أن عشرات الأشخاص انطلقوا للمهمة نفسها، طافوا قرى جنين، ووصلوا مساجد نابلس وطولكرم وبعض أريافهما، لم أكن وحيداً في هذه المهمة، وصل البيان إلى غايته، أتذكّر جملة ذكرت في البيان، تقول وهي تخاطب الشعب الفلسطيني، بأننا بدأنا ندقّ المسمار الأخير في نعش الاحتلال، وبعد 35 عاماً على صدور هذا البيان، أسأل من صاغ البيان في ذلك اليوم وأنا أعرفه جيداً، كم يلزمنا من الوقت لننتهي من هذه المهمة؟ أسأله، لا معاتباً ولا محاسباً، ألم يحن الوقت من الانتهاء من هذه المهمة؟ أعرف أن زمن الانتفاضة الأول كان الزمن المشرق والبهي، الزمن الأسطوري الدافع الملهم، وأعرف أيضاً بعد مرور تلك السنوات، أن هناك الكثير من القوى في العالم لا تريد منا أن ننتهي من دقّ المسمار الأخير في نعش الاحتلال، تلك القوى تدرك لو فعلناها حقيقة لأنجزنا مهمة كبرى، وهي دق المسمار الأخير في نعش كل القوى المستعمرة، ففي فلسطين وحولها يظهر الصراع الدولي بلا غطاء، والإنسانية جميعها تمتحن على أرضها.
في ستينيات القرن الماضي، سأل غسان كنفاني في روايته «رجال في الشمس»، لماذا لم تدقّوا جدران الخزان؟ وبعد سنوات كان الشعب الفلسطيني يخرج من أزقّة مخيماته ليدقّ جدران العالم طولاً وعرضاً، وقبل الانتفاضة كان ناجي العلي يرسم حنظلة يحمل حجراً، وكان له ما أراد، حنظلة اليوم في كل مدن فلسطين وقراها ومخيماتها، موجود وحيّ ودائم، يحمل حجراً وخنجراً وبندقية.