«يقولُ على حافّة الموتِ:لم يَبْقَ بي مَوْطِئ للخسارةِ،
حُرٌّ أَنا قرب حرّيتي
وغدي في يدي…»

محمود درويش

في الأسر، كما في ميدان القتال، كما في خيار المقاومة، حضر ناصر أبو حميد، كما يحضر الأبطال، لم تتزعزع قناعته قيد أنملة. وفي الأشهر الأخيرة من حياته، بعد أن شخّص مرض السرطان في جسده، ظن الاحتلال أن فرصته بالانتقام منه قد حانت، بينما ناصر كان يمضي كحد السيف. لم تهن عزيمته، ولم يطلب الاعتذار، فهو ابن هذه الأرض المقدسة التي عانقته، وأمام اختبار المرض بقي صامداً، فالجلاد ليس جديراً بالاعتذار، هو المؤقت والزائل، وكلمات ناصر وفلسطين هي الباقية.

«رسالتي للاحتلال، نحن أقوى من جبروتك»، هكذا قالت أم الشهيد ناصر أبو حميد فور تلقيها نبأ استشهاد ناصر. الحقيقة أن أم ناصر المكلومة، طالما نادت في الأشهر الأخيرة لأوسع حراك، في سبيل إطلاق سراح ابنها، طالبت أن يعود ناصر إلى البيت ليموت في حضنها. أم ناصر وقفت اليوم، كما تقف أم الشهيد في فلسطين، ناصر من رحمها، وتربى على يديها، لهذا فإن ما تراه العين، ليس مشهداً درامياً أُعدّ مسبقاً، المشهد حقيقي وأصيل من أم يعيش أولادها اليوم في معتقلات الاحتلال، محكومين بالأمل في لحظة حرية قادمة. وأنت تشاهد أم ناصر اليوم، ترى وتتيقن أن هناك في فلسطين من هم أقوى من الجبال، أقوى من كل ما هو متاح مادي أمام عيوننا. أم ناصر، كما أولادها، من طينة الأرض التي عشقتهم وأحبتهم وأحبوها، لا انفصال بينهما، هم فلسطيننا الناطقة الواثقة الباقية، المتجددة، الملتهبة.
أحدُ الصحافيين بالأمس القريب، سأل أم ناصر، ما هي رسالتك للعالم؟ فأجابت: أي عالم هذا الذي لم يستطع أن يجمعني بابني ساعة واحدة قبل أن يرتقي. أم ناصر كانت تدرك أن العالم الذي تراه معدوم الضمير، لا يشغله ألمها وألم ناصر، المتواصل على مرأى ومسمع هذا العالم الذي يحضر فقط ليواسي الاحتلال، وعند ألمنا يغيب ويحتضر، يموت ويندثر.
الشهر الماضي، أجرت إحدى المحطات الإعلامية البريطانية حواراً من داخل الاستديو، مع السفير الفلسطيني لدى لندن حسام زملط. استنكر زملط اهتمام الإعلام البريطاني بالخسائر البشرية الإسرائيلية وغض النظر عنهم في الجانب الفلسطيني. خلال المقابلة، عبر قناة «4NEWS»، قال زملط: «لماذا تسارعون لدعوتنا لمقابلات عندما يكون هناك قتلى وجرحى إسرائيليون، فيما لم تدعونا حينما قتل جيش الاحتلال 11 فلسطينياً، بينهم 5 أطفال؟». وعندما طرح السؤال على المذيع، الذي تحول إلى أبكم، لأن هذا العالم الذي نسأل عنه غير موجود كما أجابت أم الشهيد ناصر.
قبل أسابيع، وأمام حالة ناصر المرضية، بعد أن استفحل السرطان في جسده، أظهرت إرادة ناصر أنها هي الأقوى، بعد أن دفع الاحتلال بشروطه، التي تقوم على اعترافه بالذنب مقابل أن يخرج من المعتقل ويقضي أيامه الأخيرة، لكن إجابته الواضحة أغلقت الباب في وجه الاحتلال. 35 عاماً من الاعتقال، والجواب واضح، لا اعتذار عما فعلت، فالفعل هو ناصر، والمقاومة هي الروح التي غمرته، وهل يتخلى الفارس عن فرسه؟
تصوروا معي بأن فلسطينه التي أحبها، بقي وفياً لها حتى لحظاته الأخيرة. كان صادقاً حتى الثمالة، برغم القيد والتعب والمرض والعجز الذي يلازمنا نحن معشر الفلسطينيين، أفراداً ومؤسسات، عجز ينخر عظامنا، ويرهننا للمجهول الغارق في الظلمة الكالحة، أمّا الصادق الشهيد السعيد ناصر، المتحرر من أسر أيامنا وأحلامنا الكاذبة، يعلنها بالفم الملآن حباً وعناداً يتجاوز المستحيل، يقفز عنه ويتخطاه، هو ابن «فتح» التي نحبّها، «فتح» التي نعرفها، ونتمنّاها كما بدأت ورداً وريحاناً في تراب بلادنا. «بيننا وبينكم بحر من الدم»، يقولها ناصر وهو يدرك أن لا سلام مع الاحتلال، الاحتلال والسلام لا يلتقيان، والموت عنده ليس نهاية الطريق، هو محطة أخرى من محطات كفاحه المتواصل: «أنا رايح لنهاية الطريق، بس مُطمئن وواثق بأني أولاً فلسطيني وبفتخر، ووراي شعب عظيم مش هينسى قضيتي وقضية الأسرى الي معي».

طال الأسر وصعبت المهمة
في كل يوم تصدر الفصائل الفلسطينية بيانات نارية، تتحدّث فيها عن الأسرى، وتؤكد أنها لن تنساهم، وها هي ماضية في طريقها لتحريرهم من الأسر، فيما الواقع يعاندهم ويقول عكس ذلك. هي محاولات قليلة التي نجحت فيها المقاومة الفلسطينية في تحرير بعض الأسرى، منذ أكثر من 55 عاماً على احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، استطاعت المقاومة تحرير عدد من الأسرى أكثر من مرة، لكنها لم تتمكّن من «تبيض السجون» كما وعدت. كل وعودها ذهبت أدراج الرياح، فيما الأسرى يعيشون أيامهم وسنواتهم في غياهب السجون، يقول أحد الأسرى الفلسطينيين، إنه يرفض تسميته بالأسير المحرر، لأنه أمضى سنوات سجنه كاملة من دون انقطاع. الأسير المحرر هو من ينتزع حريته عنوة من يد الاحتلال، لهذا فإن إطلاق التسمية لا معنى لها على الإطلاق، وربما تكون تسمية يراد منها تغطية العجز، فالأسرى هم الاختبار الفعلي والحقيقي لكل القوى المقاومة، اختبار يومي. ففي 5 كانون الثاني 2023 يفترض أن يخرج الأسير كريم يونس من الأسر بعد أن قضى فيه أكثر من 40 سنة، لم تستطع المقاومة الفلسطينية خلالها إطلاق سراحه، سنوات وسنوات مرت عليه وهو ينتظر، وهناك العشرات من الأسرى، مثله ينتظرون.
ناصر ابن الشعب الفلسطيني، وشعبه الذي أحب يراه ابنه البار، بعد أن جسد كل معاني التضحية؛ فهو المطارد، الجريح، الأسير، الشهيد، أخو الشهيد، شقيق الأسرى


يوم حزين في فلسطين
المتابع لمجريات الأحداث في فلسطين، يشهد أن يوم إعلان استشهاد ناصر، كان يوماً استثنائياً في حياة الفلسطينيين؛ الإضراب الذي طاول مختلف نواحي الحياة، طلاب المدارس في بداية صباحاتهم المدرسية نعوه وعاهدوه على قسمه ووعده لفلسطين، وسائل التواصل التي امتلأت بصور ناصر، والحديث عنه وعن بطولته. الحزن في فلسطين، ليس حزناً عادياً، يمر بصمت، «عرين الأسود» هاجمت كل مواقع الاحتلال الملتفة حول نابلس كالأفعى، قنابل ورصاص، تذكّر الاحتلال أن ناصر هو الفعل المقاوم، ناصر الحاضر في دفاتر الطلاب، وعياً وفعلاً ومقاومة. أراد الاحتلال، وحتى اللحظة الأخيرة من عمر ناصر، أن يكون سادياً بكل معنى الكلمة، أيام وناصر على سريره في المستشفى، مكبل اليدين والقدمين، وهو في غيبوبته مكبل، وبعد ساعات من إعلان خبر استشهاده، تقول إدارة المستشفى أنه ليس لديها الإذن بعد لفك قيوده. قيادة الاحتلال اجتمعت لتقول رأيها في مصير جثمان ناصر، وزير الحرب المنتهية ولايته بني غانتس قرّر احتجاز جثمان الشهيد الأسير ناصر أبو حميد وعدم تسليمه لعائلته. موقع «واينت» العبري نقل عن غانتس قوله: «بعد المشاورات مع المسؤولين الأمنيين تقرّر الاحتفاظ بجثة أبو حميد وفقاً لقرار مجلس الوزراء الذي يقضي باحتجاز جثامين الأسرى لتبادلهم مع الأسرى والمفقودين الإسرائيليين».
ناصر ليس الأوّل الذي يحتجز جثمانه، هناك العشرات من الشهداء الأسرى المحتجزة جثامينهم منذ سنوات طويلة، الاحتلال سنّ هذه البدعة في هذه الحرب الطويلة والمفتوحة على مصراعيها، لكن ناصر سيكون العلامة الفارقة في تاريخ هذا الاحتجاز، وقادم الأيام سيشهد بذلك، فناصر هو التحدّي لخيار «فتح» المقاوم، وصحبه الأحياء هم من يمتلكون الإجابة.

بيت لحم التي أطفأت شجرة الميلاد
بعد أن تلقت فلسطين نبأ استشهاد ناصر، أعلنت بلدية بيت لحم على لسان رئيسها حنا حنانيا أنّ «أنوار شجرة عيد الميلاد في ساحة المهد سيتم إطفاؤها الليلة حداداً على روح الشهيد ناصر»، وفي هذا دلالة على هذا الفعل، حيث تتوحّد فلسطين بكل مكوناتها الدينية والمجتمعية، لتعبّر عن موقف واضح من الاحتلال، موقف موحّد. فناصر هو ابن الشعب الفلسطيني، وشعبه الذي أحب يراه ابنه البار، بعد أن جسّد كل معاني التضحية؛ فهو المطارد، الجريح، الأسير، الشهيد، أخو الشهيد، شقيق الأسرى، من عائلة قدّمت كل ما تملك في سبيل الحرّية، له تطفأ شجرة الميلاد، وله تضاء شوارع فلسطين بالرصاص، وله تكتب الكلمات.