خلال مروري بعشرات الأزقة الموحلة في مخيم برج البراجنة، كنت أميل بكتفي يمنةً ويسرةً أحياناً لأستطيع المرور وتلافي الدراجات النارية الكثيرة التي تعبر. وصلت إلى مسجد «فلسطين» الملتصق بأحد منازل المخيم إلى الحدّ الذي يستدعي الداخل إلى المسجد أن يمرّ كأنه داخل إلى المنزل ليدخل المسجد. في هذا الزقاق، وبعد صعودي إلى منزل ياسمين الهابط (36 عاماً) ذي الدرج الطويل، استوقفني باب أبيض مفتوح من الجهتين، وضحكة ياسمين وترحيب أخيها عمر بحيوية كبيرة.ياسمين هي واحد من مئات الأشخاص ذوي الإعاقة في مخيمات لبنان، تعيش في ظل مظاهر الفقر وانعدام مكونات البيئة الصحية. تجلس في غرفة مفرّغة من الأغراض خوفاً من تعثرها، فهي لا تستطيع الحركة بشكل طبيعي، وتمضي جميع ساعاتها في المنزل بعدما توقفت جميع المشاريع والمدرسة التي كانت ترعى شؤونها بعد انتشار فيروس كورونا. وتوقفت معها ياسمين عن صنع أدوات القش التي تعلمت مبادئها في أحد المراكز القريبة. فلا الأدوات الأولية متوفرة، ولا أهالي المخيم يقبلون على شراء هذه المنتجات.
تشعر ياسمين بالضجر في هذا المنزل المرتفع، فرغم عجزها اللغوي لم تقل سوى «الباب مفتوح عطول، ضلّكن زوروني». فبحسب والدها، يجد صعوبة كبيرة في نقلها من المنزل إلى أيّ مكان خارجي، وينقلها «كل سنة مرة»، لأن ضيق المنازل و«الزواريب» الضيقة في المخيم يجعل من الاستحالة تركيب مصعد كهربائي، وأفضل حل ممكن أن يصل إليه والدها هو تركيب بعض الدعامات للدرج ليستند إليها عندما يحمل ابنته. والد ياسمين منشغل بالعمل لتوفير متطلبات حالتها الصحية بعد تعرضها لجلطة أخيراً. أما ياسمين فتتحرك وفق إمكانياتها البسيطة في المنزل.
في الطريق إلى منزل حبيبة (اسم مستعار)، فقدان تام للخصوصية، ترى في البيت الأول امرأة أربعينية تشاهد حفلة غنائية على التلفاز بالاشتراك مع أطفال الحي الذين تجمعوا تحت النافذة. وبعدها امرأة تغسل وجهها في المطبخ مرتدية حجابها. أما الأخيرة فتتمدد على أريكتها مشرّعة أبوابها التي لا فائدة من وجودها. حبيبة شابة عشرينية ولدت فاقدة للبصر، فأصرّت على أن تتسلّح بالعلم رغم صعوبته.
أن نكون من ذوي الاحتياجات الخاصة لا يعني أننا نعاني من مشاكل الفقر فقط، بل لأننا نساء فهذا يجعلنا ندفع ثمن أننا أحياء


في المخيم مشاهد مكتظّة تعجّ بالتفاصيل، من أعلام الفصائل وصور الشهداء والقادة على الجدران إلى تدلّي الأسلاك الكهربائية وتمديدات الصرف الصحي، كلها «كمائن طبيعية» قد تودي بحياة المبصر في المخيم. ففي المخيمات يموت الشبان نتيجة الصعقات الكهربائية من الأسلاك المتدلية، فكيف بمن يعاني من إعاقة بصرية. تحظى حبيبة في الطريق التي تسلكها في المخيم بتعاطف المارة الذين حفظوا طريق منزلها، لكن لا يمكنها التخلص من «تنقيرات» الأطفال، فالحياة في المخيم غير صالحة لحالتها كما تعبّر.
تطوعت حبيبة مع جمعية محلية تؤدي خدمات بسيطة للأشخاص ذوي الإعاقة، كإعارة كرسي متحرك أو توفير بعض الأدوية، لكنها بعد انتشار فيروس كورونا اضطرت إلى ترك هذه الفرصة نتيجة صعوبة حماية ووقاية نفسها من التقاط الفيروس، فهي معتمدة بكل حركتها على لمس المحيط ما جعل عيشها حتى في المنزل مرهقاً لها مع انتشار الفيروس في منطقة تعدّ من أكثر المناطق اكتظاظاً بالسكان. ولا يمكن أن تنسى حبيبة حادثة اغتصاب الفتاة سارية من ذوي الاحتياجات الخاصة في مخيم عين الحلوة منذ أشهر قليلة، وتقول «أن تعيش في المخيم هو ليس خيار المترفين، بل هو المكان الوحيد المتاح. وأن نكون من ذوي الاحتياجات الخاصة لا يعني أننا نعاني من مشاكل الفقر ومعوّقات الحركة والتنقل فقط، بل لأننا نساء فهذا يجعلنا ندفع ثمن أننا أحياء».
الصعوبات اليومية التي يمرّ بها الجزء الأكبر من اللاجئين في المخيمات الفلسطينية في ظل تفاقم الأزمات المعيشية والصحية تتضاعف بالنسبة إلى ذوي الاحتياجات الخاصة. فعددهم وصل إلى أكثر من 5 آلاف شخص تقريباً بحسب «هيئة الإعاقة الفلسطينية» في بيروت. ومع عجز المؤسسات الأهلية والمدنية ووكالة الغوث «الأونروا» عن توفير ظروف ملائمة لعيش ذوي الاحتياجات الخاصة، إلا أن المجتمع وشكل المخيم يزيدان الأمر صعوبة. فـ«لا حياة لذوي الإعاقة في المخيم» تقول مريم (اسم مستعار) التي تتنقل باستخدام كرسي مدولب. وتضيف «لا كرامة للإنسان مثلنا هنا (المخيم)، وخاصة أننا نساء لا يمكننا التجول بحرية كما الرجال الذين يعانون من الإعاقة ذاتها». وترى مريم أن غالبية المناطق اللبنانية غير مجهزة للكرسي المدولب، إلا أن «الزواريب» الضيقة في المخيم تفاقم المشكلة. «أهلي يضطرّون إلى حملي في كل مرة أريد الخروج فيها من المنزل، والعبور بي في 3 أزقة للوصول إلى الشارع الرئيسي للمخيم لأتمكن بعدها من استخدام الكرسي». مريم التي تتمتع بقدرة عقلية جيدة تعبّر عن حاجة هؤلاء الأشخاص إلى حياة طبيعية من دون عطف من أحد.